الأحداث الدراماتيكية التي عصفت بتركيا إثر محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، التي استمرت بضع ساعات، كادت أن تقود المنطقة الواقعة بين آسيا وأوروبا ومحيط البحر المتوسط إلى زلزال سياسي ومستقبل مجهول وجديد في كل معطياته.
إجهاض المحاولة الانقلابية في مهدها مؤشر جديد في عالم السياسة، يدل على أن المؤسسة العسكرية لم تعد صاحبة القرار في الدول الحديثة، وفشل الجيش التركي القوي في فرض واقع سياسي على الأرض دليل على أن عهد الانقلابات سواء البيضاء منها أو الحمراء قد انتهى، وأن الشعوب هي الآمر الناهي ولها كلمة الفصل، بالإضافة إلى الأهمية الكبرى لوسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى نمط للحياة اليومية بكل تفاعلاتها وسلوك الناس وعقلية تفكيرهم.
إن جهازاً صغيراً نقالاً ظهر على شاشته الرئيس التركي وهو يستنجد بالناس لرفض الانقلاب في تصريح لم يستغرق سوى ثوان معدودة قهر جميع محطات الإذاعة والتلفزيون، ونزول مناصري إردوغان إلى الساحات والشوارع العامة تغلب على الجيش ودباباته، وفي ذلك أبلغ رسالة لحكومات دول العالم الثالث بأن كلمة الشعوب إذا اجتمعت تكون هي العليا.
يبقى أن درس الانقلاب الفاشل في تركيا يفترض أن يكون عبرة لإردوغان نفسه ثم للمؤسسة العسكرية والشعب التركي، ويعمم هذا الدرس على جميع دول منطقتنا، فالرئيس التركي بدأ يحكم بقبضة حديدية وحكومته أغلقت وسائل التواصل الاجتماعي أو قيدتها إلى حد كبير، فزاد الاحتقان الداخلي وغضبت المؤسسة العسكرية، ومع ذلك تمسكت المعارضة وقطاعات واسعة من الجيش نفسه بشرعية الدولة المدنية، ولم تنزل الأحزاب المعارضة إلى الشارع لتبارك الانقلاب العسكري وتمرد الكثير من الضباط على قرار الانقلابيين.
البعض قد يرى انتصار إردوغان السياسي والتفاف الجميع حوله في ساعة الصفر مؤشراً على المزيد من السلطة المركزية والتفرد بالحكم، وهذا الرأي قد يعكس تدرج الحزب الحاكم على السلطة وتعاقبه عليها وجنوحه لمزيد من القوة والبطش السياسي بعد كل نجاح.
لكن في الجانب الآخر هناك من يعوّل على استفادة حكومة إردوغان من الدرس القاسي واستثماره في المصالحة والإصلاح الداخلي، فقد تمرد على الرئيس أقرب أنصاره وأعمدة حكمه، كما أن الحزب الحاكم الممثل بتيار الإخوان المسلمين لن يقف مكتوف الأيدي للتفرج على نجومية إردوغان الفردية، ويضع مستقبل الحزب الإسلامي الوحيد الحاكم في دولة مدنية حديثة على أعتاب اختبارات صعبة متوالية قد تنتهي بالقضاء عليه كما حدث في مصر.
حزب العدالة والتنمية أزاح نجم الدين أربكان الذي كان بمثابة الأب الروحي له، وفي الوقت نفسه المرشح الرسمي لرئاسة الوزراء، إنقاذاً للحزب من التفرد بالقرار، وقد يتم تطويق الرئيس إردوغان سياسياً وحزبياً بعد محاولة الانقلاب.
السياسة الخارجية التركية انقلبت رأساً على عقب بعد وصول الإرهاب الديني إلى قلب تركيا بعدما استفادت الكثير من الجماعات المتشددة من دعم أنقرة على كل المستويات، وقد يتكرر هذا السيناريو على السياسة الداخلية ويتم مراجعتها ونزع بؤر التوتر فيها بعد الانقلاب الفاشل، وفي ذلك أفضل الحلول لبقاء تركيا متماسكة وقوية وآمنة ومعتدلة سياسياً ودينياً حفظاً لحياة شعبها وشعوب العالم الإسلامي بل شعوب العالم قاطبة!