«السلم الاجتماعي والنسيج الوطني في المجتمعات العربية في خطر.. بل أشد مؤشرات الخطر»، تلك العبارة المختصرة ربما تمر على بعضنا مرور الكرام، وتتوقف لمدة طويلة من التأمل والتمعن لدى بعضنا الآخر، ولربما وجد فيها بعضنا الثالث مجرد لغز لا محل للاهتمام فيه، لكن الحقيقة هي أن المجتمعات العربية، إذا استمرت الأوضاع هكذا على ما هي عليه من صدام على أكثر من صعيد داخلي، فإن المستقبل ينبئ بسواد معتم.
وليست المسألة في التحذير من مخاطر تصدّع الأوطان العربية من الداخل حديثة الولادة.. أي لم تولد بعد العام 2011 مع بدء حركة الموجات الشعبية على اختلاف تسمياتها في العالم العربي، بل كانت موضع اهتمام وتنبؤ من قبل الكثير من المفكرين والكتاب العرب الذين شخصوا الأوضاع في عقدي الثمانينات والتسعينات، ووضعوا تصوراً لمستقبل معتم بسبب سياسات الاستبداد والطغيان والحكم الأحادي وغياب الحكم الرشيد من جهة، وحرمان الشعوب من المشاركة الديمقراطية الحقيقية، وإشغال المجتمعات بسياسات تتخذ من القمع والعنف والحرمان من الحقوق وتكميم الأفواه ونشر ثقافة الكراهية والطائفية وحماية الجلادين والمفسدين والمخربين من جهة أخرى.
هل هناك من يترقّب لحظة انهيار السلم الاجتماعي في المجتمعات العربية؟ وعلى صعيد المستوى الخليجي على الأقل، هل هناك مؤشرات توضح أن السلم الاجتماعي أصبح مهدداً بالفعل ولا حاجة لمكياج التجميل والادعاء بغير ذلك مع وجود مشاهد دموية «داعش» والإرهاب؟ والأهم، هل هناك من ترقب هذا المشهد قبل سنوات من حدوثه؟
نعم، هو كذلك، ومن أولئك المفكر عبدالإله بلقزيز، في «دور الدولة في مواجهة النزاعات الأهلية»، والمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في «إشكالية التكوين المجتمعي العربي: أقليات أم أكثرية متعددة»، والكاتب عدنان السيد حسين: «البيئة الإقليمية والدولية الضاغطة»، وهذه الدراسات المهمة والقيّمة جداً، طرحت في العام 1997 ضمن ندوة «النزاعات الأهلية العربية: العوامل الداخلية والخارجية»، والسؤال: «ألم يكن هناك من خبراء وباحثي ومخططي السياسات ومراكز البحث، ودواوين الحكم في العالم العربي من حمل تلك الدراسات واطلع عليها ليقرأ المستقبل؟ شخصياً، أجزم بأن ذلك لم يحدث.
وبصيغة أخرى نسأل: «هل أنت كمواطن، في أي مكان من الوطن العربي، تتمنى اشتداد الصراع الداخلي، الطائفي والعرقي والسياسي، وتستمتع بأن يتعرض مكون ما أو تيار ما لضربات أمنية وقبضات متشددة؟ وهل تعتقد أن وطنك، مجتمعك، حاضرك ومستقبلك، سيكون آمناً حال تطبيق الحلول الأمنية؟ أم أنك تميل إلى تطبيق المواطنة المتساوية بثنائية الحقوق والواجبات، ونشر العدالة الاجتماعية بين كل الناس مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم السياسية؟ ويبدو لي أن ذات السؤال الموجّه إلى المواطن يمكن أن يوجه إلى جميع الحكام والأنظمة العربية.
لحظة انهيار السلم الاجتماعي في الوطن العربي، وعلى وجه الخصوص في منطقة الخليج العربي لا يزال، رغم حوادث مفزعة مروعة، إلا أنه بالإمكان تحصينها بدرجة أكبر من خلال قنوات التباحث والتلاقي بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، وإزالة العوائق وعوامل الصدام بين الطرفين، فلا أحد يتمنى أن يجد بلده كالعراق وسورية وليبيا واليمن، وبالتأكيد لا يريدها تحت الوطأة الأشد، استعماراً واحتلالاً كفلسطين المغيبة.
ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن إقدام الحكومات العربية عموماً والخليجية خصوصاً، بالخطوة الكبرى الأهم وهي: إخراس إعلام الفتنة والكراهية أينما وجد، وإلجام منابر التكفير والتشدد والتطرف؛ بل والسماح بالخطاب الإعلامي والديني المعتدل وإن كان «ثقيلاً موجعاً»، ما دام وطنياً مخلصاً؛ تلك الخطوة يمكن أن تسهم في ترطيب الساحة مضافاً إليها تكثيف نشر منتجات الإعلام والثقافة والمجتمع الجميلة المطيبة للقلوب والعقول، وتوسيع المجال لخطاب ديني راقٍ من علماء راقين، لإزالة الشوائب الفكرية من عقول ذوي الفكر الإرهابي المتطرف، والمسلك المتشدد كونهم تشربوا هذا السم منذ الصغر في مدارس ومناهج ومساجد ومراكز تحفيظ للقرآن، والكثير منهم اليوم بين صفوف «داعش» والجماعات الإرهابية.
لن تتمكن قوى غربية أو خارجية أو سمها ما شئت، ومهما قويت أن تزلزل كيان مجتمع متماسك، يحترم التعدد الديني والفكري ويصون الحقوق والواجبات، ولن ينهار السلم الاجتماعي في أي بلد ينتهج الحكم الرشيد ويفسح المجال لكل مواطن، دون تمييز مذهبي، أن يشارك في تنمية وطنه، ولا سمح الله، حين ينهار السلم الاجتماعي، لن يرغب أحد في أن يتخيل نفسه بين طرقات سرت، أو أسواق بغداد، أو خلف باب صنعاء، أو يهرول هارباً من الشام ليغرق هو وأطفاله في «البحر» هرباً من «الحرب».