بعض الذكريات تبقى جزءًا في حياتنا مع من نحب، لا تكاد تغادر الذاكرة والوجدان أبدًا وكأنها حالة من الشعور الذي يجدد النبض ويستعيد اللحظات الجميلة… في العام 1998، وضمن رحلات الوفود الإعلامية، كنت مع مجموعة من الزملاء في رحلة إلى جمهورية مصر العربية، لكن من بين الكثير من ذكريات تلك الرحلة، بقيت قصة «بوطير» ماثلة في ذاكرة الصديق العزيز الفنان أنور أحمد.
حال وصولنا إلى أحد فنادق مدينة الأُقصر في الصعيد، فوجئت بنافذة غرفتي المطلة على نهر النيل مفتوحة! والمفاجأة الأكبر أنه كان في الغرفة طير كبير من عائلة (مالك الحزين على ما يبدو)، وواجهت مشكلة في طرده من الغرفة حتى صادف ذلك حضور الفنان أنور أحمد وقمنا بمحاولة طرد ذلك الطير بالمخدات و(هش قال هش)، حتى خرج من النافذة التي دخل منها بعد أن تحولت الغرفة إلى (مردويسة)، والأكثر من ذلك، أن المعركة مع الطير تسببت في توجيه (ضربة) إلى جهاز كهربائي فانقطعت الكهرباء عن الفندق بأسره.
تلك القصة الظريفة أعيدت في لقاء رمضاني مع أخي الفنان أنور، ومنها انتقل الحديث إلى ما يعبّر عن الأسف والحسرة على ما وصلنا إليه، ليس على مستوى الإعلام والفن والثقافة، بل حتى على مستوى العلاقات الاجتماعية التي أصبحت مرهونة بقسوة للتفتيت الطائفي، ففي ذلك الوفد، كان البحرينيون، ولا يزالون، متفاهمين وتربطهم علاقة قوية تزداد قوة ولا تضعف، في حال أن المؤسف له هو أن أصوات النشاز من مختلف الفئات، ومن الطائفتين، يتصدرون العديد من المشاهد ذات الإساءة إلى ما يربط الطائفتين الكريمتين، حتى تحوّل البعض إلى بوق ينفخ وينفخ لنشر ثقافة الكراهية والتناحر، لكن بيني وبين أخي (بونور)، وضعنا نقطة آخر السطر: «البحرينيون الشرفاء من كل الأديان والمذاهب، لا يمكن أن يتاجروا بالوطن وبالناس وبالمبادئ كما يفعل غيرهم، وإن بقوا في دائرة الإبعاد».
وليس من قبيل الصدفة أن ألتقى بالأخ محمد فهد الدوسري، وهو من الناشطين الاجتماعيين من أهالي مدينة عيسى، بعد ليلة من ذلك اللقاء مع الفنان أنور أحمد، وكان لبُّ اللقاء هو تركيز «الوسط» وتكثيف جهودها القائمة على استحضار وترسيخ وغرس القيم البحرينية الأصيلة في لمِّ الشمل، ومقارعة الأصوات الطائفية والتكفيرية والمتطرفة، باعتبارها صوتًا بحرينيّاً إعلاميًّا له مكانة كبيرة في قلوب البحرينيين، وأساس الفكرة هو أن (بوفهد) كان قد حضر لقاءً بعد صلاة القيام مع مجموعة من مشايخ البحرين من أهل السنة والجماعة وعدد من الضيوف من المملكة العربية السعودية حيث كان محور حديثهم يرتكز على أن المجتمع البحريني (اليوم)، ليس كما كانوا يعرفونه في الثمانينات، حتى أن أحد الدعاة طرح الصورة الحقيقية، وهي أن المجتمع البحريني كان الأبرز والأنصع من ناحية تنوع مذاهبه وارتباط أتباع المذاهب بالقضايا الوطنية والإنسانية الجامعة بدرجة أعلى بكثير من حدود القضايا الدينية والمذهبية والطائفية التي يشتد أوارها لتشعل المجتمع وتترتب عليها انعكاسات سلبية على نواحي الحياة، من العلاقات الاجتماعية إلى تنمية البلد وتطويرها.
البحرين في حاجة إلى كل رجالاتها وعلمائها وتجارها ومثقفيها وأبنائها، عدا ذلك، فإن الصور البشعة التي نراها حولنا في الإقليم وتبلغ إلى درجة المجازر الإرهابية والتفجيرات والتناحر وإشعال الفتيل الطائفي… كل تلك الصور الإجرامية البشعة، لا يمكن أن تكون خيارًا لأهل البحرين، مهما اختلفوا في الرؤى السياسية، غير أن السماح بالأبواق الطائفية التي ترمي بسعيرها الطائفي والتكفيري والمتطرف يلزم أن يطبق القانون على الجميع بعدالة دون استثناء، فالفاسد السارق يجب أن يحاسب، والطائفي الخبيث يجب أن ينال عقوبته، والمدمر والإرهابي والمخرب… كل تلك الفئات تتشابه وتتلاقى في أمر واحد: مصلحة البحرين لا تهمهم.