عوامل تفكك الأمم متراكمة ومتداخلة. فعندما تنفجر سلسلة صراعات، كما هو حاصل في الوضع العربي، نجده يتفاعل بسبب تناقض جبار يخفي عشرات القضايا الفاصلة بين طموحات وآمال الناس من جهة، وبين الواقع المعاش من جهة أخرى.
وتتفكك الأنظمة، دون أن يشترط ذلك تفكك الجغرافيا، وذلك إن تراخت في بناء مؤسسات ذات مصداقية وفاعلية. ولا يوجد شعب ينمو ويتطور دون أن يمتلك مؤسسات تعبر عنه وتمثله، وإعلاما يتحدث بمصداقية ضمن ضمانات قانونية. لهذا ففي المجتمعات العربية تخضع المؤسسات (أكانت حزبية أم رياضية، أدبية، ترفيهية، اقتصادية، برلمانية، حكومية أم غير حكومية، قضائية، تنموية، إعلامية، مدنية) لتدخلات سلطوية فردية وتعيينات شكلية.
في العالم العربي نتواجه مع واحدة من أكثر القضايا خطورة على أمن المجتمع العربي، وهي التي تتركه عرضة لكوارث كبرى في مؤسساته. ففي البلدان العربية تتكاثر الناس وتتضاعف، لكن ذلك لا ينعكس على المؤسسات الهزيلة بالأساس إلا ضمن حدود، فالمؤسسات العربية مخترقة تنخر بها الصراعات وتمارس أعمالها بربع طاقتها، وذلك بسبب الفردانية وعدم مسؤولية التدخل المرتبط دوما بفردانية القرار السياسي. لهذا تصبح معظم التعيينات والترقيات في المؤسسات العربية سياسية لا تعكس بالضرورة حاجة المؤسسة ومستوى العمل وضرورات المهنة. وبينما تقع الانتكاسات الطبيعية في البلدان بما فيها بريطانيا صانعة أعرق وأقوى المؤسسات ذات الاستقلالية والمهنية، إلا أن البلدان التي تعاني من ضعف المؤسسات ذات التقاليد الواضحة والقيم النقدية المستقلة أكثر عرضة للفوضى وعدم القدرة على الخروج من المأزق.
وفي ظل غياب المؤسسات ذات المضمون التنموي يتعاظم دور المؤسسات الأمنية التي تتجاوز المؤسسات المدنية وتهيمن عليها في شقها الحكومي والمجتمعي. هذه صفة في الدول التي تفشل في بناء مؤسسات فاعلة، وهي بالأساس التي تؤدي، عندما تتفاقم، إلى الدول الفاشلة. هنا بالتحديد تبدأ الدائرة المغلقة التي تحد النمو والتطور، وهذا يفتح الباب لتعاظم أدوار قلة من الافراد في أعلى الهرم السياسي. لهذا تفقد الأمم روحها عندما يستطيع فرد تقرير مستقبلها بمعزل عن نقاش عام وفكر مجتمعي وتفاعل مع ثقافة ومؤسسات وصحف ومثقفين وصناع رأي وممثلي هيئات.
تسقط الأمم في العصر الحديث عندما تأتي القرارات من الأعلى بلا مشاركة واستفتاءات، وبلا هيئات تمثيلة وأغلبيات وأقليات.
في ظروف كهذه تكون الأمة مركبة كبيرة يسيرها قبطان، لكنها تخلو من البحارة والمراتب الوسطى الفاعلة.
وفي ظل ضعف المؤسسات وتعاظم دور فرد في أعلى هرم السلطة، تصبح حالة الخوف المرتبطة بغياب المساءلة والنقد، المدخل للفساد الذي يجفف الأنهار ويلوث البيئة ويدمر الكفاءة ويعظم الفهلوة ويقدسها. الفساد مرض يصيب الأمم فينشر فيها المؤسسات الضعيفة والمشاريع الوهمية، كما والتنمية والتعليم الوهمي. الفساد أخطر من الحرب، إنه مرض مدمر للدول الناشئة يجعلها بالنهاية تخضع للخارج في أهم قضاياها وخططها.
وفي الأمم المغلوبة على أمرها تراجع واضح للتعليم وسيطرة ثقافة تعليمية لا تجيز نقد وانفتاح، ولا تسمح بنقاش جاد. يكفي في حالة كهذه درجة الضعف الذي تنتشر في المؤسسة التعليمية مما يجعل إداراتها العليا وكادرها البيروقراطي أهم من الطالب في الفصل وأهم من الدور المناط بهيئة تدريسية تمتلك القدرة على المبادرة.
وتتفكك الأمم عندما يلوم القادة الشعب على جهله والأمة على تخلفها، لكن عند التدقيق فالقادة مسؤولون عن المستنقع لأنهم فضلوا لعبة المصالح الضيقة والسطحية على حساب بناء المؤسسات. وهذا يعني أن النظام السياسي لم يستخدم إمكاناته الهائلة بما يكفي لتطوير القاعدة السكانية واحترام حق تعبيرها عن نفسها عبر مؤسسات تمتلك تقاليد ورؤى.
في حالات كثيرة ينظر النظام السياسي للسكان على أنهم عبء.
إبقاء السكان بلا خبرة سياسية ثم بلا خبرة تنموية، ثم بلا مؤسسات فاعلة مستقلة، مقدمات تفكك وتراجع، تؤدي بطبيعة الحال لسيطرة قوى الخارج على الدولة.