في مطلع الثمانينات، عندما كنا في المرحلة الإعدادية، كانت الأوقات التي نمشي فيها من قريتي (البلاد القديم) وصولاً إلى محطة النقل العام في الصالحية ذهاباً إلى سوق المنامة.. كانت من أجمل الأوقات وأكثرها قرباً إلى معنى (المغامرة) بالنسبة لنا خاصةً حين يتكرر ذهابنا ليومين أو ثلاثة متتابعة لشراء ملابس العيد بأنفسنا.
وكالمعتاد، يتواجد في محطة النقل العام عدد من رجال ونساء القرية ونحن معهم ننتظر وصول الحافلة، ثم ذهاباً وإياباً يكون لأحاديث الحافلة مذاقٌ خاصٌّ، ويكون لدوّار (السلمانية) وقعٌ خاصٌّ أيضاً، فهذا الدوّار الذي كان يقع مقابل مستشفى الطب النفسي من جهة الشمال (موقع الإشارات الضوئية الآن) كان يمثل بحق تحفة رائعة حيث كانت البلدية آنذاك تبدع في أشكال المزروعات والأشجار المحيطة بالدوار… فتارةً على هيئة خيول تجري وتارة على أشكال فخارية، وفي ذلك الوقت، لم يكن الوضع كما هو اليوم حيث لا ازدحامات مرهقة ولا تأخير في الذهاب والوصول.
باص «عتيج»، وهو رجل بحريني له ملامح الغوص وجسارة البحر، ويُقال إنه من أهل مدينة عيسى وآخرين يقولون إنه من أهل المحرق، هو الباص الذي يفضله أهل قريتي… لم يكن بالطبع ضمن حافلات النقل العام الحكومية ذات اللونين الأحمر والأبيض، بل كانت حافلة خاصة باللون الأزرق يقسمها من منتصفها شريط أبيض، وكان العم «عتيج»، ولا أدري إن كان قد غادر الدنيا ليرحمه الله أو لايزال على قيد الحياة فيطيل الله في عمره، كان محبوباً لدى الجميع، وتربطه علاقات قوية جداً مع معظم أهالي القرى.
على الأقل، بالنسبة لنا ونحن في المرحلة العمرية بين 10 و15 سنة من أبناء القرية، كنا نسترق السمع للكبار وهم يتحدثون في طريق الذهاب والإياب، وفي موضوعات شتَّى تسيطر عليها السياسة بالدرجة الأولى، ويحتدم النقاش بطبيعة الحال وتختلف الآراء ولربما هدأت الحافلة حين يهتف أحد الناس: «ما عليه يا جماعة الخير صَلُّوا على النبي… اخزوا الشيطان»… وأتذكّر من رجال القرية ممن كنّا نعتاد على رؤيتهم في باص «عتيق» كثيراً كونهم يقصدون السوق المركزي، أو سوق المنامة القديم وتحديداً (سوق الأربعاء) حينما كان مجاوراً لسوق الحدّادة في ذلك الوقت، أتذكّر منهم المرحوم الحاج علي الجفيري والمرحوم الحاج سلمان الصيرفي والمرحوم الحاج علي موسى، ومنهم أيضاً المرحوم منصور سرحان والحاج إبراهيم الخال والمرحوم الحاج أحمد غلوم والمرحوم الحاج علي العلي والمرحوم (غلوم البيّاع)، وغيرهم كثيرون لا أتذكرهم قطعاً.
ميزة «عتيج» هي ميزة كل البحرينيين ممن يجمعهم الارتباط والانتماء وعشق الوطن (البحرين) دون تفرقة مذهبية أو طائفية، فذلك الباص يمثل كل المكونات: السنّة والشيعة والهوَلة والعجم والوافدين، وبالطبع، لم يكن المجتمع يخلو من مثيري الفتنة والنعرات الطائفية الخبيثة، لكنهم في الحقيقة، ليسوا كما هم الآن من ناحية الشدة والقوة والبطش والتأثير بسبب امتلاكهم للمال والنفوذ والإعلام، بل لأنّ هناك من يصفق لهم كثيراً، أما في باص «عتيج» فأي طائفي أو تكفيري أو متشدد كائن من يكون، يتحول في رحلة الباص تلك إلى شخص منبوذ (دنيء) حين يرى الغالبية (نظيفين) وليس على شاكلته وما علق به من قذارة طائفية.
أغلب الأحاديث كانت تدور آنذاك حول تطورات وأخبار المنطقة من بينها حرب الخليج الأولى ولربما اختلطت فيها أحاديث عن أسطورة خرافة (أبو قرون) أو (الفارس الملثم)، إلا أنه على رغم محدودية تأثير الصوت الإعلامي واعتماد الناس على وسائل (تواصل اجتماعي واتصال) تقليدية للغاية، لكن الوعي كان (جوهرياً)… أي معرفة مقرونة بالعمل الصالح المفيد للمجتمع وليس كما هو الآن… زبدة القول في باص «عتيج»، أنه يمثل نموذجاً ملهماً في الأزمات أستغرب شخصياً غيابه في أزمة بلادنا الغالية… أستغرب تواري غياب وتأثير وصوت رجال الأعمال، التجار، علماء الدين، المثقفين… أي الشخصيات والوجهاء ممن يتوجب أن تكون لهم قنوات تواصل مع الدولة للتباحث في شئون البلد… في باص «عتيج» لم يكن أحد يجرؤ على تكفير أحد أو سلب انتماء ووطنية أحد أو تجاوز الحدود أو النيل من الوطن أو قيادته أو شعبه… لم يكن أحداً ليجرؤ على نشر الغربان والجرذان والآفات في حقل الوطن.