هل يمكن نزع طفل عن ذكريات طفولته وحرمانه من زمنها ومكانها وأحداثها؟! أليس من حقه أن يتعايش مع أحداث طفولته؟! لا جدال في أنه لا يقدم على حرمان طفل من ذلك إلا مجرم انتزعت الرحمة من قلبه، فهو يتلذذ بتعذيب الطفل.. وإليكم قصة هذا الطفل:
في عام 1966 وحينما كان في سن السابعة أخذته رحلة بصحبة عائلته الكويتية إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين انه المسجد الأقصى، فقد طاف في باحته، وصلى مع مصليه، وعاش أحداث الإسراء ومعجزته وإمامة خاتم الأنبياء والرسل للأنبياء، وبعدها خرج مع أهله وسط زحام الناس، وإذ به يتبع امرأة تلبس عباءة سوداء وتضع طفلها الرضيع على كتفها ظانّا أنها خالته، ولما طال به المشي خلفها هرول ثم نظر في وجهها، ويا لهول الصدمة إنها ليست خالته، إنها امرأة أخرى، وهنا دب الخوف في نفسه، فطفق يركض يمينا وشمالا، باحثا عن أمه، عن خالته، عن أهله! أين هم، وأين ذهبوا؟ فلم يجد أحدا منهم، فأدرك أنه صار في عداد الأطفال الضائعين فجاش بالبكاء، وإذا بشرطي من حرس الحرم القدسي يمسك بيده ويحاول تهدئته، وأخذ يطوف به متوسما أن يتعرف عليه جمهور آمين هذا الحرم، وما هي إلا لحظة حتى يتقدم ذاك الرجل في الأربعينات من عمره مرتديا اللباس الكويتي، ومشيرا إلى أنه يعرف أهل هذا الطفل، وبعد حديث مطول وتدوين للبيانات، سار الرجل ممسكا الطفل وبجواره ذلك الشرطي باتجاه إحدى البوابات الرئيسية، وإذ بزوجة هذا الرجل تلتقيهم فتعرف الطفل عليها وارتسمت على وجهه ابتسامة التفاؤل، وما هي إلا بضع دقائق حتى يشاهد الطفل أمه وهي تنزل من السيارة، فأفلت يده راكضا نحوها، والشرطي والرجل وزوجته يحاولون اللحاق به، وخلال ثوان كان الطفل بأحضان أمه والبكاء يتعالى من كليهما.
ومرت سنة بعد عودة الطفل مع أهله الى الكويت، حتى أذهلته أخبار أن الصهاينة دنسوا بيت المقدس بعد اغتصابهم القدس، وصار يبكي متمتما: يعني لن أتمكن من رؤيته مرة أخرى؟! ومرت سنوات ليبدأ دراسته الثانوية، وقد ظن أن تباشير تحرير القدس تحققت مع أخبار انتصارات حرب أكتوبر، فإذا صاعقة تهز كيانه، فالانتصارات تبعها مزيد من التوسع والتمكين للكيان الصهيوني المغتصب، وأطرق حزينا مرددا: لا أمل في استرجاع القدس وزيارتها مرة أخرى!
ومرت سنوات وإذا بالشاب يبدأ فك شيفرات حمائم السلام المتواطئة بعد انكشافها بالزيارة لأنور السادات لتل أبيب، وبعد سنوات شهد هذا الشاب تصفية المقاومة الفلسطينية التي تم إجلاؤها من لبنان، ثم عايش مرحلة سياسات التطبيع مع العدو الصهيوني، التي صارت بضاعة الدول العربية، وأصبح الشاب أستاذا جامعيا وحلم العودة لذكريات الطفولة بالقدس يراوده، وتشاء الأقدار استضافته في تسعينات القرن الماضي متحدثا في احدى الجامعات الأميركية عن القضية الفلسطينية، وخلالها وجهت له احدى الحاضرات السؤال التالي: متى تنتهي إراقة الدماء بين العرب والكيان الصهيوني المغتصب؟
فكان رده: لن ينتهي ذلك طالما هناك صاحب حق مسلوب من جهة ومحتل ومغتصب، فمظاهر السلام حقيقتها تحين للفرصة لطرد المحتل من الأرض، ولذا مخطئ من يعتقد أن إراقة الدماء ستنتهي. وبقيت الذكريات تنتقل لأبنائه، وانه لا بد له أو لهم من زيارة القدس المحررة، والصلاة في بيت المقدس، إعادة لذكريات طفولته التي لا يمكن أن تنتزع منه، قبل أن يدنِّسه الكيان الصهيوني المغتصب.