تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية، كما الأمنية والإنسانية في مصر، إذ تكتشف مصر مع بداية 2016 أن النظام السياسي ذا الطابع العسكري الذي جاء لحكم مصر في يوليو 2013 يكاد يصل لذات مفترق الطرق الذي وصل إليه نظام الرئيس مرسي قبل تدخل الجيش، إن الوضع الجديد يعبر عن نفسه من خلال تآكل مستمر في وضع الدولة.
تناقض غريب ذلك الذي تعيشه مصر: دولة عميقة لديها أذرع وقدرات أمنية ضخمة في ظل اختفاء مكانة الدولة الحقيقية المستقلة عن النظام السياسي بمؤسساتها وجيشها والقادرة على الدفاع عن نفسها وتحقيق توازنها؛ لقد دخل النظام المصري في مأزق أخلاقي وسياسي وبيروقراطي ومؤسساتي، محولاً مأزقه لمأزق للدولة المصرية برمتها.
ويتبين في مصر، وهي أكثر دولة تأثيراً على بقية العرب وأكثرها اقتراباً من مفهوم الدولة التاريخي، أنه لا نهاية لما كان قد بدأ في 2011 دون تحقيق أهداف العيش والحرية والعدالة، بل يتبين أن التاريخ يسير بسرعة كبيرة ويحتوي على تقلبات حاسمة، فالذي تؤيده الناس في الصباح سترفضه في المساء إذا لم يحقق وعوده، ومن ترفعه في هذه اللحظة لن ترفعه في اللحظة التي تليها إذا مارس سياساته كما مارسها من جاؤوا قبله. هذا عصر الجماهير والرأي العام الذي لا يمكن القفز عن قيمه بلا ثمن كبير.
في مصر يصطدم كل شيء مع نقيضه، حتى أطراف النظام تصطدم مع بعضها البعض، كما تتصارع على المكاسب، بينما تتنصل من المخاسر، وهذا ينبئ بأزمات تنشأ من الفراغ المستفحل لتحفر في جدران التاريخ، الخطر الأهم أن تتحول الأزمات إلى قوة مدمرة للكيان، وهذا ما يجب تفاديه لصالح نهضة مصر وخروجها من المأزق التاريخي الذي وقعت فيه.
وتزداد الهوة في مصر بين النظام السياسي من جهة وبين مكانة الدولة والشعب من جهة أخرى؛ إذ تتراكم فيها العشوائيات وتتفاقم أزمة العدالة ويتفاقم استخدام شريحة أمنية للجيش فيما لا يجب التورط به خوفاً على الجيش ومكانته في الدولة، بل تزداد الهوة بين الأقلية الثرية والأغلبية التي لا تملك سوى أن تعمل بأجر بخس لا يساوي ربع عملها، وهذا يعني ارتفاعاً في حالة العزلة بين فئات وطبقات مختلفة، بعضها يعيش في مدن معزولة وأحياء مغلقة، بينما بقية الشعب يعيش في عالم بلا أمل وطموح، قصص الفساد في كل مراتب المؤسسات تنتقل على لسان كل المصريين. فالهوة مثلاً في التمويل العالمي لاحتياجات مصر من العملات الأجنبية ستقترب من 15 مليار دولار في العام القادم، بينما معدلات البطالة الرسمية 11 %، لكن البطالة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير، كما أن البطالة بين الشباب هي الأعلى.
من جهة أخرى فإن الدعم الخليجي بدأ بالتراجع، ففي العام 2016 لن يصل لمصر ما وصل في 2013 و2014، الأزمة المالية التي تعصف بأسعار النفط هي الأخرى مؤثرة. ليس غريباً أن مصر لم تستطع تحمل برنامج ساخر كبرنامج باسم يوسف، فهو حتماً كان سيوضح حجم هذه التناقضات الكثيرة قبل أن تتفاقم لهذه الدرجة.
في ظل وضع كهذا يتفشى دور الأجهزة الأمنية ضد مدنيين وضد عسكريين وضد كل شيء وضد الأغلبية المهمشة، لهذا تقع حوادث كثيرة بسبب تغول الأجهزة، كما حصل مع الشاب الإيطالي الباحث الجامعي الذي اختفي ثم عُذب وقُتل منذ أسابيع، وهذا يتناغم مع حوادث شبيهة تتكرر بلا انقطاع، كما ومع الحوادث التي وقعت بين الأطباء مؤخراً وأمناء الشرطة، ويتداخل هذا مع عدد الأحكام القضائية المبالغ بها وقرارات الإعدام بما فيها التي شملت الرئيس السابق محمد مرسي وأعوانه، كما وقرارات سجن أفراد ونشطاء لسنوات بسبب مسيرة، وأحكام ضد عسكريين، ثم أحكام بحق أطفال بسبب مسرحية وأحكام أخرى ضد كاتب روائي بسبب فقرات.
لقد تكدس عشرات الألوف من المحكومين وغير المحكومين قضائياً في سجون مصر. كل هذا ومازالت الحرب في سيناء، التي وعد النظام بإنهائها في زمن قريب، مستمرة.
لقد بدأت مصر تعاني من شركات تقفل أبوابها، ورأسمال أجنبي ينسحب، ومؤسسات عالمية تخفف من أعداد موظفيها، ومخصصات ورواتب لا تدفع لشهور، ومصاعب في إخراج العملة، وتراجع الجنيه أمام الدولار، وهذا يسهم في تضخم كبير مدمر لكل الطبقات الشعبية والوسطى، وتعاني مصر من قرارات دول تحد من السفر إليها إلا للضرورة (خاصة بعد سلسلة حوادث أهمها الطائرة الروسية التي تم تفجيرها فوق سيناء) وهذا يسهم بضرب السياحة التي يعيش من وراءها ملايين المصريين، شواهد كثيرة تؤكد أن المشاريع العملاقة التي نفذت( كمشروع توسعة السويس) كانت مشاريع علاقات عامة تفتقد الأولوية الاقتصادية بأكثر منها مشاريع حقيقية للمصريين، بل حتى مشروع «المدينة الثانية» لم يقم أحد ممن سوقه وتبناه بشرح أسباب اختفائه.
هذا المشهد يجعل النظام في حالة سعي دائم لتثبيت كامب ديفيد (اتفاق السلام مع إسرائيل) وحصار غزة بأكثر مما تحاصرها إسرائيل، والعمل بنفس الوقت من خلال التقارب مع إسرائيل لضمان الدعم الأميركي المالي والسياسي. هذا يجعل الوضع المصري ضعيفاً أمام الخارج، مما ينعكس على قدرته علي التعامل مع سد النهضة الإثيوبي الذي يهدد المياه ومنسوبها في نهر النيل.
مصر سائرة نحو المجهول في ظل غياب مخرج سياسي واقتصادي (كلاهما متداخل مع الآخر).
ويصح القول، رغم كل النقد الموجه لمحمد البرادعي، إنه رأى هذا المشهد فتركه وابتعد. إن صراع الإخوان المسلمين مع النظام ساهم في خروج فئات أساسية من شباب الإخوان المسلمين لصالح مدرسة العنف، وهذا وضع يصعب ضبطه بسبب سد النظام لكل آفاق الاحتجاج السلمي. لقد تأخر النظام في بحثه عن مخرج مع كل المصريين بكل تياراتهم بمن فيهم الإخوان، إذ افترض أنه قادر على تصفية خصومه، لكن هذا غير ممكن، ففي هذه الظروف الدولية والإقليمية والتكنولوجية وفي ظل حالة الانسداد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وتفاقم أزمة العدالة والاقتصاد لا يستطيع أي نظام تصفية خصومه. إن الخصم الذي تنهيه اليوم يعود إليك بشكل آخر وبصورة أكثر زخماً بعد حين. هذا يعني أن تفادي المشهد الدموي الذي يتطور ويعطي إشارات واضحة لإمكانية قدومه يتطلب إبداعاً حقيقياً والكثير من الخيال السياسي الذي لا نجد له شواهد الآن.
عندما أفكر بمصر يبرز أمامي المشهد الروسي بين ثورتي 1905 و1917، فقد سعى النظام القيصري في تلك الحقبة لتصفية أعدائه والاعتقاد بإمكانية إنقاذ النظام بلا دمج للقوى الجديدة وبلا ممارسة أفق إصلاحي يصيب جوهر الاقتصاد والتوزيع، لكن عدم حصول ذلك أنضج القوى الثورية الروسية مما أبرز على مسرح التاريخ البلاشفة الذين رفضوا كل صفقة وأصروا على التغيير الشامل للنظام، وهذا أنتج بدوره نظاماً ديكتاتورياً حديثاً هو الاتحاد السوفياتي.
الحالة المصرية بين فكي كماشة وبين أكثر من سيناريو، لكن سيناريو استمرار الوضع الراهن هو الأضعف، بل لو استمر الوضع الراهن بهذه الصورة لأنتج انتفاضة (جياع) دموية تختلف جذرياً عن مشهد ميادين 2011. المشهد القادم دموي بتعبيراته ومقدماته، وهو ما يجب الانتباه إليه، ليس لتمجيد الدموية بل لتفاديها وللحد منها.
إن مصر في سباق شاق لتفادي انفجار كل مشكلة متراكمة بسبب وضع سياسي مستغرق في نفسه ومفصول عن واقعه.
مصر بحاجة في الحد الأدنى لتسوية سياسية تشمل كل المصريين، تسوية تسمح باستعادة أسس ما ثار المصريون من أجله في 2011.