عرض الصحافي “جيفري غولدبرغ” بشهرية اتلانتك تصوراً عاماً لمبدأ “عقيدة” أوباما، وهو عبارة عن لقاءات وحوارات مستفيضة مع الرئيس الأميركي حول السياسة الخارجية للدولة بصفة عامة، استغرقت طباعة تصورات أوباما نحو مئة صفحة (بخط عريض)، وبمثل ذلك العرض الشمولي الذي يتنقل في التاريخ من “هوبس” بفكرة حرب الكل على الكل والليفانثان، وكيف نقرأ خريطة الشرق الأوسط بهذا المنظار، إلى لمحات نقدية لنظرية “هنتغتون” عن صراع الحضارات، إلى واقع الدولة القبلية في الشرق الأوسط، إلى دعوته لتجديد الفكر الديني في عالمنا الإسلامي، مع رفضه وإدانته لأطروحات منغلقة متعصبة ضد الإسلام، كما تبناها بعض السناتورات الجمهوريين مثل المرشح الجمهوري دونالد ترمب، لا يمكن أن نصدر أحكاماً انفعالية متسرعة عن “مبدأ أوباما” بطريقة “مع الخيل ياشقرا”، لأنه انتقد سياستنا ونهجنا، فالرجل يقود أقوى دولة في العالم، ويملك ثقافة قانونية وسياسية عميقة، ويحيط به مستشارون ودور بحث “ثنك تانك” هائلة، فلنتمهل قبل أن نستعرض عضلاتنا الفكرية في تقييمه، وليس لأحد أن يرتدي بذلة “نعوم تشومسكي” بنقده العميق للسياسة الأميركية إن كان لم يقرأ حرفاً للأخير.
حين نقول “مبدأ أوباما” فلا يعني ذلك أنه فكرة خاصة للرئيس تأتي معه وتزول مع انتهاء فترة ولايته، هي مثلها مثل “مبادئ عديدة لرؤساء سابقين، من تي دي روزفلت “عقيدة العصا الغليظة” إلى وودرو ويلسون ونقاطه الأربع عشرة في الحريات وغيرهما، تلك الرؤى الشاملة تمثل جزءاً أصيلاً من استراتيجية عامة للدولة العظمى، لا تقوم على اجتهاد فردي خاص كما يحدث مع “ربعنا الديمقراطيين”، بل تبقى فترة مع بقاء مصلحة الدولة الأميركية أياً كان وصفها، لكن تلك “المبادئ” تتغير وتتطور مع الزمن وتبدل الظروف وفكر الرؤساء، ويبنى عليها كما يرتفع البناء الكبير، فأوباما ليس نيكسون مع أميركا اللاتينية، وقلب نظام الليندي، وليس هو ريغان وفضائح إيران كونترا ودعم المجاهدين الأفغان بأموال البترودولار، وليس هو جورج بوش “الابن” مع التدخل في العراق وقلب نظامه التسلطي، وإن أيد الرئيس بوش “الأب” بحرب تحرير الكويت، لكنه في النهاية يتفق مع السابقين في الرؤية العامة للسياسة الخارجية القائمة على فلسفة “البراغماتية” ومصلحة الدولة الأميركية (أو طبقتها الحاكمة حتى يرضى عني الرفاق)، على ذلك تبقى الاختلافات بين قائد وآخر في التفاصيل- إن صح التعبير- لا بالنهج العام، فهي دول مؤسسات لا فرق عنتريات.
في لقاء أوباما انتقد سياسات دول الخليج بدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة في عدة دول بالعالم، لكن أوباما لم يذكر دور دولنا والمبالغ الفلكية التي دفعتها أيام الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي لضرب الاتحاد السوفياتي والتعجيل بتفكيكه بسلاح المجاهدين وأموال الخليجيين، فقد حققت دولنا أعظم خدمة للسيد الأميركي، أيضاً يتفق الكثيرون مع الرئيس على رفض تعليق كل شرور وأخطاء النظام العربي على “مشجب” الصراع العربي الإسرائيلي، فتلك وسيلة هروب من مواجهة فشل أنظمتنا، أو حين نبرر إحباطنا اليوم في بناء دول قوية حديثة ومتكاملة باقتصادياتها ونموها المستدام على تطلعات الجمهورية الإيرانية وتغلغلها في دول المنطقة، لكن تبقى الحقيقة التي لا يقرها أوباما أن إسرائيل وسياسة الليكود العنصرية عقدة كبرى، ليس لنا أن نعفيها من تحمل الكثير في مأساة أوطاننا المفككة، وأيضاً تظل إيران مصدر قلق مشروع لدولنا، ولكن هناك دائماً الأمل مع التغيير بتلك الدولة الثيوقراطية نحو بناء جسور للحوار والسلام لمصلحة شعوب المنطقة.
تكلم أوباما عن داء القبلية في النظام العربي والملهاة الليبية ماثلة أمامه، وهنا “عجز دولنا عن الانتقال من القبلية إلى مؤسسات الدولة الحديثة مع بقاء النظام الريعي كمصدر بقاء وديمومة لها”، يبدو أن الرئيس على اطلاع كبير بفكر تلميذ هنتغتون، وهو فوكوياما، وعمله الموسوعي عن أصل النظام السياسي، وبدراسة الأخير عن تطور واضمحلال الدول ومؤسساتها من الصين التاريخية إلى النموذج الدنماركي، فلنفكر بتمعنٍ في حقيقة وضعنا إن كنا فعلاً دولاً “نيشن ستيت” أم مجرد تحالفات قبلية مهددة بالزوال، دون أن ننسى واقع الصومال أو اليمن أو العراق أو سورية أو ليبيا كما أسلفت، وإذا كانت أموال النفط باسترضاءات وتطييب خواطر “المحاسيب” في الدوائر القبلية العائلية “لا فرق” هي الغراء اللاصقة لمثل مجتمعاتنا، فما العمل الآن بعد زوال أيام المجد النفطية؟! هل هناك من حلول غير ابتعاث دولنا المريضة للعلاج بالخارج على طريقة وزير الصحة العبيدي… أسأل فرسان “مع الخيل ياشقرا” إذا كان عندهم إجابة…؟