انتشرت في الكويت سابقا، بين الأطفال تحديدا، “بلاعة البيزة”، التي كانت عبارة عن حصالة نقود على شكل تمثال لشخص أسود يمثل الطبقة المستعبدة قديما، ذي فم كبير بابتسامة عريضة، يغلب عليها طابع الجمود، توضع قطعة نقود في يده الممدوة ويحرك المفتاح خلف ظهره، كي يشرع هذا التمثال “ببلع البيزة” إلى بطن حاضن لها، لا تمكث فيه فترة، حتى تختفي ويختفي معها صوت رنينها، وتبقى الابتسامة خلابة، بثباتها وعرضها، وهي تلتهم نقود الأطفال من دون تمكينهم من السؤال عن حالها أو معرفة مصيرها.
ومع اندثار هذه القطعة في زماننا الآني، إلا أن هذا التمثال خلق مدرسة لها روادها اليوم، ولها منظروها ومفكروها “وأساتذتها”، بل إن نهج هذه “البلاعة” تطور على مرَّ الأزمنة، فأصبح قابلا لبلع الأوراق النقدية “الأنواط” والشيكات، فالبطن الذي كان يقبل فقط قطعا نقدية، بات يهضم الأموال بشكل سلس ويسير من دون أن تصيبه أي عوارض صحية. الجدير بالذكر، أن هذه المدرسة لم تجحد بعرابها “الأسود”، وتحيد عن مساره، فآثرت على نفسها التمسك بخطه، فتم تغييب مصير الأموال التي تبتلعها عن علم ومعرفة الشعب.
إلا أن الأمر الذي تغافل عنه رواد هذه المدرسة والممارسون لفكرها، هو أن “الشي اللي يزيد عن حده ينقلب ضده”، والإفراط في الأكل لن يمنع المعدة من التمدد وإشغال حيز أكبر من سابقه في الفراغ، وبالتالي يكون – أي الإفراط – مرمى لاستقطاب مرض فتاك قاتل لن يستثني أحدا إلا يعديه، ويطلق عليه الأطباء اسم “العجزوفينيا”.
هذا الوباء بدأ بالظهور في الكويت مع بداية السنة الجديدة، وبدأت حكومتنا، الوريثة الشرعية “لبلاعة البيزة” وأحد أهم رواد مدرستها الحديثة بالهذيان، نتيجة إصابتها به، فسخرت جهودها للبحث عن أفضل علاج لهذا الداء، فاكتشفت أن مرض كهذا يحتاج إلى عمليات ربط معدة كثيرة، إلا أن ما أثار ذهول وغضب الشعب النحيل، الذي دائما ما كان خارج حسبة ونادي المشاركين بولائم النقود والشيكات، بل إنه لم يكن متفرجا أو حتى نادلا فيه، أنه تم البدء به لدفع ثمن هذه العمليات المكلفة، وتحمله جزءا كبيرا من مشكلة لا ناقة له فيها ولا جمل، ومع هذا تستمر الحكومة “بلقلقة” لسانها المتخم بإصرارها على مشاركة الشعب لحل ما خلفته سياستها البائسة.
الشعب اليوم لا يمانع بالمشاركة في حل المشكلة، لكن ليست بهذه الطريقة الساذجة، التي اتجهت فيها الحكومة مباشرة لجيب المواطن من دون حتى الاعتراف بخيبتها وفسادها وسوء سياستها طوال هذه السنين، فلا يمكن القبول أبداً بتساوي الجيوب التي أثقلت من فوائض الميزانية، مع الجيوب التي يتطايرها الهواء من خفتها لسد العجز.
المطلوب اليوم من الحكومة، أن تبدأ بالكشف عن حقيقة هذا العجز ومسببه، ثم تعلن صراحة محاربتها للفساد الذي خلفته أفعالها وسياستها، وتقوم بإيقاف مخصصاتها ومخصصات قياديي الدولة، وتنهي المال السياسي، الذي يعد ميزانية بحد ذاته، وترفع الدعم عمن كسب الملايين، لا عن المواطن البسيط، وبالتأكيد قيامها بفرض ضريبة على ما تجنيه الشركات من أرباح ضخمة، والأهم من هذا كله، تقديم استقالتها من منصب حامي وحارس أموال ومصالح التجار، وإشغالها في منصب حكومة فعلية تعمل على مرأى ومسمع الشعب.. وبعد هذا، لتفكر في جيب المواطن ومساهمته في الحل.