ترتفع عالياً لوحة رخامية صغيرة، لن يلحظها أحد بسهولة، على مسجد السوق الكبير، في وسط الكويت العاصمة، مكتوب عليها العبارة التالية: “دائرة أوقاف الكويت العامة (السوق)، أسس هذا المسجد محمد بن حسين بن رزق سنة 1209 هجرية، جدد بناءه يوسف آل صقر بمعاونة بعض محسني الهند سنة 1255 هجرية، جدد بناءه دائرة الأوقاف سنة 1373 هجرية”.
بالطبع ما يلفت الانتباه هنا هو أن “بعض محسني الهند” جادوا بما لديهم لدعم ترميم مسجد في الكويت. وبالطبع الشكر كل الشكر لذلك الإنسان المجهول الذي حرص على أن تستمر هذه القطعة الرخامية الصغيرة بحجمها والكبيرة بمعناها، ولم يهشمها أو يكسرها انتقاماً من ماضٍ، يمجدونه بالنهار، ويدمرونه بالنهار أيضاً.
في الهند أكثر مما في غيرها، يطلق عليها “درة التاج”، وقال فيها الكويتيون الأوائل: “الهند هندك إذا قل ما عندك”.
قضيت في الهند عدة أيام بدعوة من مؤسسات أكاديمية، وهي فرصة للتعلم.
فالهند قابلة للاكتشاف وإعادة الاكتشاف، وهي ليست للذين يظنون أنهم يعرفون كل شيء، ويستهينون بالآخرين، وما أكثرهم.
التنوع في الهند بقدر تنوع الألوان الطبيعية وغير الطبيعية، بها ما هو مشرق وما هو دون ذلك.
الدستور الهندي مثلاً يعتمد 22 لغة. ولغة النقاش في البرلمان عادة هي اللغة “الهندية”، وعند سؤال نائب باللغة الإنكليزية فإن الوزير يجيب بالإنكليزية التي تسمى “لغة ربط”.
الهند والصين هما الأكبر من حيث عدد السكان في العالم، إذ تجاوزتا المليار إنسان منذ زمن. العاصمتان بكين ودلهي تتشابهان في حجم التلوث، إذ يموت في الصين أكثر من مليون شخص كل عام بسبب التلوث، ولا تختلف دلهي عن ذلك كثيراً. أما لماذا صار تعداد البلدين بهذا الحجم فلذلك مبحث آخر.
يضاف إلى التلوث المتعب في دلهي الازدحام المروري، وسعياً إلى الحل قامت إدارة المدينة بتجربة قبل شهر تقريباً، حيث يُسمَح بدخول دلهي للسيارات حسب الرقم الأخير، يوم للأرقام الزوجية وآخر للفردية. يبدو أن التجربة كانت ناجحة، فقد قلّ التلوث وقلّ الازدحام، ولكن سكان دلهي يمطون شفاههم بأن ذلك لن يستمر. لماذا؟ أكد لي البعض أن كثيرين لديهم القدرة المادية على شراء سيارة إضافية يختلف رقمها عن سيارتهم الحالية، وبالتالي يدخلون المدينة في كل الأيام.
هناك سيارة صغيرة تملأ الطرقات اسمها “موراتي” وهي، كما قيل لي، نتاج تعهد رئيس الوزراء الأسبق راجيف غاندي بتوفير سيارة رخيصة للجميع. وبالتعاون مع سوزوكي، تم خلق “موراتي” في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بـ2000 دولار، أما الآن فيبلغ سعرها 5000 دولار. الموديلات الحديثة من “موراتي” مزوّدة بفلتر لضبط كمية الانبعاثات من عوادم السيارات كي لا يتحول ذلك المخلوق المعدني الصغير إلى وحش ملوث.
في الهند الكثير مما يمكن أن نتعلم منه، وبالذات في مسألة التعايش السلمي بين الملل والنحل، في منطقتنا التي تتلوث فيها النفوس بالكراهية وإلغاء الآخر أكثر بكثير من تلوث الهواء. بالطبع الوضع في الهند ليس مشرقاً ففيه عنصرية وتشدد، ولكن يبدو أنهم توصلوا إلى معادلة ما، ولو كان لدينا تنوع واحد في المئة مما لديهم، فهل لي أن أتخيل كيف ستسير الحياة؟