التصريحات الحكومية والنيابية الأخيرة بشأن «رأس وجيب» المواطن لم تكن موفقة على الإطلاق، لا من حيث المضمون أو التوقيت، فالإعلان عن «الموس» الذي سيصل إلى رأس مواطن، أو اليد التي ستطال جيب كل فرد، قد يعتبره الكثيرون من المواطنين استفزازاً أو تهديداً صريحاً لإلقاء نتائج تراجع أسعار النفط وإخفاقات الحكومة في تنويع مصادر الدخل أو خلق فرص إنتاجية جديدة على حساب المواطن البسيط.
إننا نعيش تحدياً اقتصادياً حقيقياً، والأزمة المالية قادمة لا محالة في ظل استمرار الانهيار النفطي والسياسة المالية الحالية، وبحسبة بسيطة ومجردة فقد تراجع الدخل العام من (100) مليار دولار عام 2010 إلى (15) ملياراً عام 2015 بسبب انخفاض سعر النفط الذي نعتمد عليه بشكل عام كمصدر وحيد للرزق مع ثبات التزاماتنا في أوجه الصرف والإنفاق، والتي بلغت في الأعوام الأخيرة (60) مليار دولار، وهذا يعني عجز حقيقي!
لكن إلقاء المسؤولية على المواطن ومحاولة إظهار أن سياسات التقشف ستطال المواطن عبر الرسوم ورفع الدعم عن بعض الخدمات أو رفع قيمة البطاقة المدنية إلى خمسة دنانير أو إيقاف برامج التدريب والبعثات فهو دلالة على العجز الحقيقي في ذهنية الحكومة ومن يروّج لأفكارها، وإليكم بعض المؤشرات السريعة والمباشرة:
أولاً، تمتلك دولة الكويت موارد اقتصادية قوية جداً على الرغم من أجواء التكتم التي تحيط بها، ومن بين ذلك الصناديق السيادية التي تقدر بمئات المليارات وبعائد سنوي يتراوح بين 10و13 في المئة، أي ما يعادل مبيعات النفط في أفضل أسعاره، بالإضافة إلى الاحتياطي العام المقدر بـ (140) مليار دولار وهو رقم معلن، لكنه أقل من الحقيقة بكثير، ويضاف إلى ذلك احتياطي الأجيال القادمة، والفوائض المتراكمة من أسعار النفط العالية خلال السنوات العشر الماضية والتي يفترض أنها بلغت أكثر من (250) مليار دولار! هذه الأرقام لا تعني أبداً الدعوة إلى إنفاقها بالطريقة التقليدية المجنونة لسد العجز الحالي والقادم لأنها ستتبخر في غضون سنوات قليلة.
ثانياً: من «الاستعباط» السياسي القول بأن زيادة الرسوم أو رفع أسعار البنزين أو الكهرباء وغير ذلك من أشكال الدعم للمواطن سوف يعالج العجز في الميزانية، فمبالغ الدعم هذه مجتمعة لا تتجاوز (500) مليون دينار أي بمعدل 3 في المئة فقط من حجم الميزانية العامة للدولة، وهي (21) مليار دينار، فذلك أبعد بكثير من أن يكون حلاً منطقياً، ناهيك عن عدم كونه حلاً سياسياً للمشكلة.
ثالثاً: «المُولوِلون» على الكوادر التي أقرت أخيراً ينظرون إلى القشر لا إلى المضمون، فهذه الكوادر كبيرة جداً، ولكنها صرفت لمهن الهندسة والمحاسبة والطب والقانون والتعليم، وهذه الوظائف يفترض أن تدر عوائد خيالية إذا أخذنا بالاعتبار ما تجنيه المكاتب الهندسية ومكاتب المحاماة والمستشفيات الخاصة والمؤسسات التعليمية الخاصة ومكاتب التدقيق المحاسبي، والعيب الأساسي هنا في الحكومة العاجزة عن تحويل هذه التخصصات وأصحابها إلى مشاريع إنتاجية وتشغيلية لتكون رواتبها مصدراً لإنتاج فعلي مربح!
وأخيراً الترويج لفكرة «الموس والجيب» يجب أن يكون على درجة عالية من المسؤولية والاحترام، فلو بادرت الحكومة بالقول إنها ستكون القدوة في حلق رأسها وشق جيبها بملاحقة الحرامية والقبيضة والتقشف الذاتي والتفكير بإخلاص في مستقبل البلد لسارع الناس إلى بلّ رؤوسهم والانتظار حتى يحين دورهم في آخر هذا الطابور الحكومي!