في أحد الأسواق في مدينة أوروبية يقف شاب أمام كشك لبيع أجهزة تصفيف الشعر. يسوّق الشاب الأجهزة بلغة إنجليزية جيدة وبلكنة إيرانية واضحة لا يخطئها السمع.. بالطبع إضافة إلى ملامحه التقليدية الحادة.. شعر أسود كثيف مليء بالجل، وعينان سوداوان واسعتان، وقميص مفتوح الأزرار “أنا هنا منذ خمس سنوات، لكنني سأعود قريبا إلى مدينتي طهران، بعد أن تستقر الأمور الاقتصادية، أشتاق إلى بلدي وأحب العيش فيها وأريد أن أسهم في التغيير”. قد يبدو شأنه شأن كثير من الشباب الإيرانيين، سافر محمد كما يقول بهدف الرزق. لم تكن حاله وحيدة، فصور الاحتفالات التي عمت طهران بعد الاتفاق النووي كانت أغلبيتها شبابية، تخللها رقص وهتاف مختلط بين الجنسين.. حيث أخرجت الفتيات شعورهن من تحت غطاء الرأس على مرأى الأمن وتجاهل الشرطة الدينية على غير العادة. إلا أنه يبدو أن تطلعات الشباب الإيراني أبعد من مجرد كليشيهات احتفالية بعد عقود من الكبت الاقتصادي والسياسي. شعب إيران على الرغم من القمع شعب منفتح أكثر حتى مما يبدو على عكس النظام ومريديه، يتقدمه جيل ينظر إلى أمريكا كحلم قديم، فعدد كبير من الإيرانيين حاصلون على الجنسية الأمريكية، هذا عوضا عن غير الشرعيين هناك، وفضلا عن عشرات الآلاف الذين يهاجرون سنويا بسبب ضعف الاقتصاد والقمع السياسي وضبابية المستقبل.
ظهرت بعض التكهنات بأن التقارب مع أمريكا من شأنه أن يوجد نهاية عملية لحالة العداء معها. وهو العداء الذي أضفى هالة من القدسية على شعارات الثورة، الذي كان، وعلى مدى عقود، ذريعة لضبط الحياة الاجتماعية وقمع الحريات السياسية والدينية. والآن لربما أصبح هذا الحاجز المُزَاح ذريعة للشعب من باب آخر للضغط على النظام للدفع إلى الانفتاح السياسي، ولا سيما من الجيل الجديد الذي يتساءل ويعبر بصوت عال عن الرغبة في استبدال النظام الثيوقراطي بدولة حديثة. من يتابع الخطاب الإيراني ولا سيما منذ بدء مفاوضات الاتفاق النووي، يلحظ ازدواجية معيارية في الخطاب. هناك فرضية بأن الازدواجية أمر طبيعي نتيجة للصراع السياسي الداخلي بين الرئيس روحاني كجناح منفتح والحرس الثوري كجناح ثوري متطرف. وهناك فرضية أخرى يكون فيها الأمر لعبة سياسية بين المنطقة والغرب، حيث اللغة الدبلوماسية لا بد أن تؤهلها للاحتفاظ ببعض أوراق المناورة والضغط كما ترغب في أن تقدم نفسها كلاعب أساس في أزمات المنطقة. ولربما نجد أيضا في قضية حرق السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد مثالا على ازدواجية الخطاب، إلا أنه وللمفارقة أن هذه الازدواجية هذه المرة من النقيض المتطرف أيضا، حيث قال خامنئي أخيرا بعد القبض على المعتدين إن الهجوم على سفارة المملكة أمر سيئ أضر بإيران والإسلام! ازدواجية الخطاب هي ذاتها ازدواجية الهوية بين إيران الثورة وإيران الدولة. تماما مثل ما لشعار “الموت لأمريكا” بعده الرمزي، وهو شعار هوية أكثر من مجرد تعبير لموقف قديم. وقد بدا أن التقارب مع أمريكا من شأنه أن يسقط البعدين الاعتباري والديني اللذين صنعهما النظام طويلا كسياج حماية وضبط اجتماعي في مواجهة عدو مفترض. إذن الفرضية الثالثة للازدواج هي خطابات الاستهلاك المحلي. وقد نجح النظام الإيراني كما يبدو طوال عقود خلت في ضبط الداخل، كما نجح في إقناع الأيديولوجيات الثورية الشبيهة بثورية النظام ضد الطغيان الأمريكي والصهيوني. فاللغة الثورية المشتركة قد تجمع إيران بكوبا كمثال، هي الأخيرة التي تضع كلا من صورة الخميني وصورة تشي جيفارا على أضخم مبنيين في وسط هافانا. إلا أن نجاح عقود من الضبط قد يهدد الأيام القادمة أمام مواجهتين داخلية وخارجية، بين جيل متوثب فوق السياج ومجتمع دولي يتطلعون معا إلى إيران الدولة لا إيران الثورة.