كان عام ٢٠١٥ عام نزاعات وحروب لكنه قبل كل شيء عام اللاجئين السوريين الهائمين في العالم وعام المهاجرين العرب من أوطانهم والذين بلغوا حتى الآن ٢٢ مليون انسان. عام ٢٠١٥ هو أيضاً عام التدخل الدولي والروسي في سورية، وعام انتشار «داعش» وضرباته في باريس والكويت وغيرهما. إن عام ٢٠١٥ كان عام تراجع أسعار النفط وعام تشديد الحصار على تنظيم «داعش». في ٢٠١٥ استمر مأزق مصر السياسي حيث تعمق التراجع الحقوقي في ظل العنف في سيناء وتفجير الطائرة الروسية الذي أدت الى أزمة كبيرة في السياحة، لكنه في الوقت ذاته عام إيران واتفاقها النووي مع الولايات المتحدة. في العام ٢٠١٥ ازدادت رائحة الموت في منطقتنا العربية في ظل فتك الدول وفتك الإرهاب، لكن عام ٢٠١٥ تضمن صموداً صعباً للتجربة التونسية وصموداً ثابتاً للكثير من القوى الحقوقية والديموقراطية العربية بألوانها الإسلامية والاجتماعية الحرة.
سيكون عام ٢٠١٦ أصعب من العام الذي نودعه اليوم. فعام ٢٠١٦ سيكون أيضاً عام المفاجآت حيث يستمر تفكك النظام العربي الذي عرفناه بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وسبب ذلك ما زال مرتبطاً بفرضية أن الشعوب العربية تغيرت وتتوقع معاملة مختلفة وتنمية واضحة ومشاركة تحترم حقوقها، بينما الأنظمة لم تتطور وترتقِ ما خلق في ظل تراجع الدور الأميركي جدلية تحول ونزاع سوف تبقى معنا وتزداد وتيرتها في العام ٢٠١٦. ستزداد ضغوط الإصلاح في دول الخليج، وسيحفزها في ذلك النموذج المغربي الذي قطع شوطاً مقبولاً في طريق طويل، لكن ذلك سيقع في ظل ارتفاع حدة الخسائر الاقتصادية والاستنزاف العسكري والسياسي. هذه أول مرة منذ عقود تلعب القوى الإقليمية المحلية كإيران وتركيا وبعض المعارضات والحركات دوراً أكبر من القوى الغربية والأميركية. في بداية عام ٢٠١٦ وفي يومه الأول نجد أن النظامين العالمي والعربي عاجزان عن التعامل الجاد مع الأسباب السياسية والاقتصادية التي تؤدي إلى الانهيار العربي. فإن كان بشار الأسد في جانب هو الأكثر تطرفاً وجموحاً في التصدي للتغيير، نجد في كل دولة عربية، باستثناءات قليلة، تمترساً وعجزاً عن مجرد التفكير بالتغيير.
أصبحت الدولة العربية مع قدوم ٢٠١٦ شكلاً بلا مضمون وقوة أقلية على حساب غالبية، ولم يعد للمواطن الضعيف أو للغالبية اية طريقة لحماية حقوقها أو للتأثير الإيجابي في النظام السياسي الذي تدعي تمثيله. هذا المشهد مسؤول عن تدمير النظام العربي. الدولة العربية المفرغة من داخلها ومن قدراتها على الإقناع ومن شرعيتها القديمة ومن كاريزما الزعامة ومن حقوق الإنسان استغلت الطائفية والقبلية والفئوية والدين لتحمي ما تبقى من شرعيتها، والآن نجدها تعاني من نزيف الشرعية لتتحول الى دولة أمنية بامتياز، وهذا يضعها في عين العاصفة.
وتستمر حرب اليمن من عام ٢٠١٥ إلى ٢٠١٦ متحولة الى حرب استنزاف جديدة، فهي بالأساس واقعة في مجتمع يمني منقسم وبين قوى سياسية تتصارع حول كل شيء. حرب اليمن، ومهما كانت التقديرات حول مدى التدخل وعمقه وضروراته او محدداته، فهي تقع في ظل استقطاب إقليمي – دولي كبير، وفي ظل أوضاع اليمن الصعبة. ومن الصعب توقع حل قريب لليمن، بخاصة أن قوى جهادية سوف تستفيد من كل فراغ بل ربما من كل حل سياسي. الاستنزاف سيبقى على الأغلب سيد الموقف في اليمن وذلك لأسباب محلية يمنية وإقليمية ودولية تتعلق بصراع القوى.
اما في سورية فالابتعاد عن الحل، في ظل محاولات لتحقيقه، سيكون الوجه السائد في ٢٠١٦، فلا التدخل الروسي سيهدئ الموقف، ولا قتل قيادات المعارضة المسلحة سيؤدي الى استسلامها، بل بالعكس سيدفع ذلك نحو وحدتها في العام ٢٠١٦، وقد شكلت محاولة السعودية صناعة هذه الوحدة محاولة إيجابية في طريق طويل. غارات الطيران لن تحسم الحرب، لكن الحروب الأرضية ستقع بين فرقاء يشعر كل منهم بالجهد المضاعف. خسائر سورية كبيرة، ففيها خسائر نتجت من موت مئات الآلاف، وخسائر نتجت من الهجرة التي أفرغت البلاد من سكانها ومتعلميها وطبقتها الوسطى، اضافة الى التدمير الشامل للبنى والاقتصاد. إن عودة سورية الى واقع ما قبل الحرب يتطلب الكثير، وهذا غير ممكن بلا توافقات كبرى وإعادة ترتيب للحقوق والضمانات بين الفئات والمواطنين. وهذا الاحتمال غير ممكن في ظل حكم الأسد. بل ستؤدي حرب سورية الى مزيد من التوتر التركي الروسي في ٢٠١٦. إن سقوط الطائرة الروسية مجرد مؤشر إلى ما هو مقبل بين البلدين. فعلى الأغلب سيشهد العام ٢٠١٦ تدخلاً تركياً مدعوماً خليجياً في شمال سورية. سيعتمد التدخل التركي بصورة أساسية على تقوية معارضي نظام الأسد في المناطق التي يتراجع عنها «داعش».
أما في العراق، حيث برز «داعش» فستبقى الحرب طوال عام ٢٠١٦، فهناك صراع على العراق تمثل إيران أحد أقطابه المتواجدة ميدانياً، وصراع ضمن العراق وتياراته وقومياته وطوائفه وهو لن يختفي في المدى المنظور. الحرب على «داعش» ستؤذي التنظيم في ٢٠١٦ لكنها لن تدمره ولن تدفعه الى الاستسلام، فـ «داعش» على الأغلب سيصمد طوال عام ٢٠١٦، وهذا سيدفعه إلى تصعيد عملياته التي ستستهدف المدنيين في العالم وفي أوروبا، ما سيؤدي إلى مزيد من الخوف من المسلمين في أوروبا.
وفي ظل الحالة العربية التي تتفتت في الدول الجمهورية بالتحديد، نجحت مصر بالمقارنة بغيرها في تفادي حرب أهلية مدمرة، لكنها في الوقت ذاته تعيش حالة احتراب أهلي وخلافات حادة تزداد عمقاً، فبين معارضي إزاحة الرئيس محمد مرسي والنظام الراهن قطيعة تهز الاستقرار المصري، وقد دفعت هذه الحالة بالنظام إلى سجن عشرات الآلاف، ولكن في الوقت ذاته يجب ألاّ نقلل من أنه داخل جبهة ٣٠ يونيو التي مهّدت الطريق للإطاحة بالرئيس مرسي تفكك يزداد وضوحاً بسبب خيبة الأمل الناتجة من الوضع الذي نشأ نتيجة تدخل الجيش وتوسع سيطرته على الأوضاع الاقتصادية منذ تموز (يوليو) ٢٠١٣. مصر تعيش اليوم مأزق العسكرة وسيطرة الجيش على مفاصل الدولة واقتصادها في وقت يعجز الجيش عن تأمين حلول لمشكلات مصر، لكن مصر تعيش أيضاً مأزق التغير العربي الأوسع من خلال حراكاتها الظاهرة والمستترة. بين اتجاه العسكرة التقليدي للنظام السياسي المصري وبين مستقبل مصر المأمول يزداد التناقض وتعود المشكلة في شكلها الواضح. إن أسباب ما وقع في ٢٥ يناير من ثورة ما زالت قائمة لكن من دون ان تتوافر على الأرض تلك الكتلة الثورية والبدائل التي تواجدت في ٢٥ يناير.
لهذا يمكن الاستنتاج بأن الأرضية في ٢٠١٦ لحراك مصري هدفه تصحيح المسار لا زالت قائمة، فبذور التغيير في مصر قد زرعت وهي لن تختفي. لكن من جهة أخرى من الصعب تنبؤ شكل التصحيح وأسلوبه: هل تقع على سبيل المثال هبة شعبية يعقبها إصلاح من الأعلى وتوافق سياسي، أم تغيير يأتي من الأعلى يستبق هبة من الأسفل؟ السيناريو المصري مفتوح على احتمالات عدة قد تقع في ٢٠١٦ او في ٢٠١٧، لكن الدولة المصرية تبدو أكثر تماسكاً من دول أخرى. فمهما وقع في مصر من تغيير فهي عصية، لأسباب كثيرة، على الدخول في حالة شبيهة بسورية والعراق، لكنها في الوقت ذاته ليست عصية على ثورات وهبات شعبية كما وقع في ٢٥ يناير.
وفي فلسطين سيستمر الحراك الناتج من الحصار والاحتلال والاستيطان والعنف الإسرائيلي الذي يفرض على الفلسطينيين. تمثل الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت في ايلول (سبتمبر) ٢٠١٥ بداية تحول يعيد الساحة الفلسطينية إلى واجهة المقاومة ضد العنصرية والاحتلال. سيستمر دخول المجتمع الفلسطيني في حالة جديدة طوال عام ٢٠١٦. ففترة الجمود (باستثناء حروب غزة) واليأس بدأت تسقط بفضل البحث عن مشروع فلسطيني جديد مفاده الحقوق والأرض والإنسان. هذه الانتفاضة الفلسطينية في ظل البحث عن الطريق ستستمر طوال عام ٢٠١٦ بفضل حراك الشارع الفلسطيني.
ستتميز الأجواء العربية في عام ٢٠١٦ بالحروب الأهلية والدول الفاشلة من اليمن الى ليبيا، ومن سورية الى العراق، وستتميز باستمرار التطرف الديني، والتدخلات الأجنبية والحروب، والفاشية، وأسعار سلبية للنفط، ما سيساهم في مزيد من انهيار النظام العربي. هناك في ٢٠١٦ اكثر من نظام عربي يواجه وضعاً صعباً في قضايا الحقوق والبطالة والاقتصاد كما الحريات والعنف. لهذا لا يستبعد ان تقع انفجارات شعبية في دول عربية لم تشهد ثورات في السابق. حادثة بسيطة قد تكون كفيلة بتفجير مخزون من الكبت كما وقع مع محمد بوعزيزي في ٢٠١٠. إن ظروف عودة ما عرف بالربيع العربي ليست بعيدة من الإطار ويجب الاّ نستبعدها في أي تحليل للوضع العربي، فتلك القوة الكامنة ستبقى، لسنوات طوال، احتياطاً إستراتيجياً للحالة السكانية العربية.