يبدو أن القضاء عموماً، والدستوري خصوصاً، قد أشغل منذ فترة بعجز السياسيين عن حل أزمات سياسية بحتة، فيحيلونها إلى القضاء دون مساءلة ومحاسبة على الأخطاء التي ارتكبوها.
آخر حلقات ذلك المسلسل إلغاء قانون هيئة مكافحة الفساد بحكم محكمة دستورية، لأنها صدرت كقانون ضرورة. فمع أهمية وجود الهيئة إلا أنها جزء في بحر متلاطم من ثقافة فساد مستشرية، آخرها فضائح ملف العلاج بالخارج. التصدي لثقافة الفساد تلك يحتاج برنامجاً تنموياً متكاملاً، ربما كانت الهيئة أحد أهم عناصره.
كان يفترض على مجلس الأمة أن يمارس دوره الرقابي بدلاً من مشاركة الحكومة خطيئتها بموافقته على قانون ضرورة لم يكن له ضرورة الاستعجال. هيئة الفساد وجودها ضروري، لكن دون الحاجة للإخلال بالسياق الطبيعي للعملية التشريعية. كان الأجدى أن يقوم المجلس برفض القانون، وفي ذات الوقت يعمل على إصدار قانون جديد، كما حدث مثلاً مع قانون حق المرأة السياسي سنة ١٩٩٩.
في نوفمبر الفارط، وخلال مؤتمر اتحاد طلبة أميركا تحدثت مع رئيس هيئة مكافحة الفساد، السابق، للدقة.
وبينما أكد حرصه على استقلالية الهيئة إلا أنه كان يتوقع إلغاء قانون إنشاء الهيئة بحكم المحكمة الدستورية. ولذا أعدت الهيئة قانوناً بديلاً في حالة الإلغاء، متداركاً القصور الوارد في القانون الحالي.
لم يتسن لي الاطلاع على القانون الجديد الذي أعدته الهيئة، والذي يفترض أن يطلع عليه مجلس الأمة، حيث تقدمت الحكومة بقانون بديل، لم يتم فيه تلافي نواحي القصور في القانون السابق، وأهمها تبعية الهيئة لوزير في الحكومة، يفترض أنه يراقب فسادها، فالاستقلالية الكاملة هي حجر الأساس في عمل جهة رقابية كهيئة مكافحة الفساد.
إنشاء هيئة مكافحة الفساد فعل إيجابي، لكن إلغاءها بهذه الطريقة يدل على ضعف إداري وقانوني وسياسي، هذا على افتراض حسن النوايا، وهي مسألة مكررة بشكل فاضح. أولم تلغ مثلاً المحكمة الدستورية الانتخابات ومجلس الأمة بسبب إصدار قانون بهيئة الانتخابات كقانون ضرورة؟
نحن في مرحلة فراغ تشريعي، كما يقال، “تطير الطيور بأرزاقها”، وتحلق أعلى من السابق، ويستمر الفاسدون في الاستيلاء على “الجمل بما حمل”، ليتضح أن الذين لم يتجاوبوا مع القانون، إنما كانوا ينطلقون من ثقافة فساد متأصلة.