“في اليوم التالي لم يمت أحد.. علينا أن نتذكر أنه في الـ 40 مجلدا من تاريخ العالم لم تحدث مثل هذا الظاهرة ولو لمرة واحدة، لم يحدث أن مر يوم كامل بساعاته الـ 24، بنهاره وليله، دون أن يقع موت واحد.. حتى عشية السنة الجديدة أخفقت في أن تترك خلفها كعادتها طابور الضحايا المفجع… لم يمت أحد من المصابين في الطريق وتحدوا بذلك أكثر التوقعات الطبية تشاؤما.. المريض الذي كان من المستحيل أن يعيش بالأمس، بدا اليوم واضحا أنه يرفض الموت، وأن ما يحدث هنا يتكرر في أرجاء البلاد. حتى آخر قبس من آخر ليلة في السنة كان الناس يلقون حتفهم في التزام كامل بقواعد اللعبة، سواء تلك المتعلقة بلب المسألة أي إنهاء الحياة، أو تلك المتعلقة بشكلها أي الدرجات المتفاوتة من مظاهر الأبهة والوقار التي ستصحب اللحظة القاتلة…”. تذكرت رواية “انقطاعات الموت” للروائي البرتغالي خوسيه ساراماجو، ونحن نودع عام 2015 بوفاة زميل وعزيز آخر، أحد «فرسان مكة» عمر المضواحي. لكن الموت ليس كرواية ساراماجو المتخيلة. إنه يخطف أرواح الأصدقاء والأحبة بلا فاصل قصير. يفاجئنا مثل بريد غير متوقع، مثل انفجار، مثل نشرة أخبار عاجلة.
«فارس مكة».. أو اللقب البليغ الذي أطلقه تركي الدخيل كعنوان لمقالته على الزميلة عكاظ “ورحل فاروق المهنة”. عمر الذي ندر أن يشبهه أحد في تاريخ الصحافة السعودية، أخلص لها كصحافي مجرد مؤمن بقضية، مثل الحرمين الشريفين وتراثهما. آخر تغريدات للصديق عمر، كانت سبع ساعات من إعلان خبر وفاته على الصفحة نفسها، منتقدا مزاد بيع الحطب المصادر في المدينة المنورة، موجها حديثه إلى وزارة الزراعة، إلا أنه فجر الأحد، ودع عمر الحياة، هي التي لم تمهله لقضاء سنوات الـ 50. لم يكن ليبدو رحيله مختلفا عن رحيل مؤقت سابق كرره غير مرة حين يضيق ذرعا بالمهنة فيظهر متذمرا مقاطعا حتى “السوشيال ميديا” مثل تغريدة له آخر 2014 “سامحونا.. وإلى لقاء!”. وعاتبته مرة فرد علي بقوله “الصمت للصحافي مر كعلقم، لكنه أكثر حلاوة وطلاوة من العسل المصفى في مؤسستنا الصحافية اليوم، لذا توجب أخذ الاحتياط والحذر” مرفقا ذلك بابتسامة.
يعرف عن عمر ألا منطقة رمادية لديه، شريف مباشر لا يعرف النفاق، وهذا جزء من مسببات إضراباته وغضبه أحيانا. إلا أن مدونته الصحافية “روبابيكيا صحافي، مجرد محاولة لاجتراح عالم الصحافة السعودية” خير تركة لصحافي معجون بالمهنة فكرا ولغة وحياة، هو المنغمس وجدانيا في التجربة. مشوار صحافي امتد أكثر من ربع قرن تميز فيه بالفيتشر والبروفايل. «فارس مكة» علمنا المعنى الحرفي لمقولة “أهل مكة أدرى بشعابها”، هو الذي كتب مرة عنوانا شهيرا لتحقيق صحافي “الموت في مكة حياة”. إنه الصحافي العريق حتى آخر نفس في حياته. وداعا عمر.. في انصرافك الأخير.