من أهم منطلقات المشكلة العربية سيطرة نظرة دونية بين الكثير من النخب العربية تجاه الشعوب والشرائح الإجتماعية المختلفة، وذلك بصفتها قاصرة وغير قابلة للتطور والنمو. لا تستوي كل النخب في هذا التفكير، فهناك تفاوتات. لكن قطاعاً ليس صغيراً من النخب العربية يعتبر أنه لسوء طالعه يعيش في جغرافيا سلبية ومع شعوب دون المستوى. هكذا لا تعود قضايا الفقر والبطالة والتردي مسؤولية النظام، ولا يصبح الإحتكار السياسي والفردية إلا ضرورة في التعامل مع هكذا شعوب. للحظة يبدو الأمر وقد إختلط، فهل الذي يتحدث هو الاستعمار أم وريثه، أم ان قيم الاستعمار (حول عدم قدرة الشعوب على ممارسة السياسة والتداول على السلطة) إنتقلت عبر الوقت لتصبح قيم النخب الجديدة. وقد أضافت ثورات الربيع العربي مخاوف جديدة في صفوف النخب الحاكمة. لهذا تتحصن قطاعات من النخب العربية وبدرجات متفاوتة وصولاً الى التطرف يميناً ضمن أسوار وقلاع مفادها أن الديموقراطية والحريات والمساحة العامة تمثل خطراً على النظام. بعض النخب يخشى من كل تغيير، وبعضها يفضل التغريب الشامل لكن بشرط عدم إصطحابه: الحريات والحقوق والمساحة العامة التي تمثل أحد أعمدة قدرة الغرب على التطور. مأزق الأرستقراطية العربية (وبالطبع ليس كلها) تحول الى مأزق عربي بإمتياز. من جهة أخرى ان أول النخب العربية التي ستخرج من هذا الحصار الذي فرضته على نفسها بنفسها ستكون قادرة على تجيير قدراتها وخبراتها لصالح تقدم الشعوب. يبقى هذا الأمر (الإصلاح القادم من الأعلى، أم من الأسفل أم من الاثنين) مفتوحاً على مصراعيه.
إن أصل التحدي يقع في ذلك الحيز من النظام العربي غير المساءل والمفرغ من التوازن بين شرائح ومؤسسات. يكفي أن نستعيد كلمة اللورد اكتون الشهيرة في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر: «السلطة تميل إلى أن تكون مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة شاملة». لكن أكتون تابع قائلاً: «العظماء من الرجال وفي معظم الحالات رجال سيئون». وقد قصد هنا أكتون أن الأكثر مقدرة من الرجال على تجاوز الآخرين والتلاعب بهم ثم بالقانون هم الذين يصلون الى القمة، وان الناس بطبيعتها ستعطي من هو في القمة الفرصة ليستغل قوته وإمكاناته مما يفتح الباب للفساد.
ولقد سبق ان قال ابن كثير في القرن الرابع عشر: «الناس على دين ملوكهم». وبالفعل تتأثر مجتمعاتنا بالنماذج التي تحكمها. وبما ان النماذج العربية الحاكمة أكثر ميلاً للمركزية وعدم تقبل الرقابة فمن الطبيعي ان يتأثر المجتمع بهذه المدرسة. لهذا يصبح مدير مدرسة صغيرة ديكتاتوراً متشبهاً بالنموذج الذي يغذيه الإعلام وتعكسه الصحافة المنغمسة في تأليه الشخصية، ونجد ان المسؤول عن دائرة في مؤسسة حكومية أو خاصة لا يتقبل نقداً أو مساهمة بسهولة ويسر. لقد أنتج الواقع العربي نظاماً سياسياً وأيضاً إجتماعياً وثقافياً لا يرى ولا يسمع إلا ما يهدد إحتكاره ولهذا قلما يتصدى لما يهدد الوطن الأوسع. وبما أن لدى الأنظمة العربية ميلاً طبيعياً لتهميش الكفاءات والأنماط النقدية من الأفراد، نجد ان أبسط مسؤول قسم يمارس ذات السياسة بهدف التفرد والبقاء. فالأولوية للسيطرة التي تتحول الى غاية بحد ذاتها عوضا عن أن تكون السلطة المساءلة في دائرة ام أكبر وسيلة للإنجاز تتحول الى وسيلة إفساد.
وقلما استوردت الدول العربية من الغرب التجارب الديموقراطية وتجارب الحريات، بل على العكس من ذلك تم إستيراد أكثر أدوات التكنولوجيا تقدماً من الغرب، وتم تفادي تعلم قيم الحرية والنقد والديموقراطية بصفتها آلية وسطية لحل نزاعات المجتمع. هنا وضعنا أنفسنا في تناقض كبير بين الانتفاع التكنولوجي من جهة وبين أدوات التفكير والعلاقات القائمة على الحرية والنقد والمساءلة التي انتجت هذه التكنولوجيا. بل فضلنا إستعارة التجارب المفرغة من كل حرية وديموقراطية من بعض مناطق العالم الثالث أو في جوانب من تراثنا الرسمي القديم وذلك بهدف جعل السياسة والمساحة العامة مجال احتكار الأقلية. هذا النموذج المتناقض والذي يعيش إنفصاماً بين الشكل والمضمون أدى الى ضعف تجارب الشعوب والمجتمعات العربية لكنه تحول الى فتيل مشتعل قابل للإنفجار تماماً كما حصل في الربيع العربي في ٢٠١١. كان الربيع انفجاراً كبيراً لهذه الجدلية التي تعشش في النظام العربي منذ عقود.
ان الهدف الأساسي للنظام العربي بصورته العامة يتلخص في العمل على منع الخيار الديموقراطي. لكن هذا الخيار بين النخب العربية، المستمد في تبريراته من تاريخ للإستبداد السياسي، يتحول الى حد كبير الى خيار مضاد للتنمية، فلا تنمية جادة ومسؤولة لا تتحول في ما بعد الى مشاركة وانفتاح ونقد وشفافية، وهذه مكونات تؤدي الى الديموقراطية. لا يمكن تطوير المجتمع من دون تدريبه بحرية ولامركزية على أسس العمل النقابي والتعبيري والحقوقي والسياسي، فلا بلدية أو حكومة أو وزارة أو أجهزة حكومية بلا مساءلة. التجارب الآسيوية في التنمية دليل على أثر النمو الأقتصادي الجاد على الحياة السياسية، فكوريا الجنوبية، تلك الدولة المركزية، والتي مارست الديكتاتورية لعقود تحولت بفضل التنمية إلى كوريا الديموقراطية. ينطبق هذا الأمر على عدد من دول آسيا واميركا اللاتينية.
في زمن المخاض العربي الكبير الذي بدأ عام ٢٠١١ لن تكون الديكتاتورية، سواء أرادت النخب الراهنة أم لم ترد، إلا من تعبيرات الماضي. في المشهد الراهن تمثل السلطوية قوة مؤثرة في المشهد العربي، لكن المشهد في حالة تغير. إن الأرضية، بسبب الحراك العربي الراهن والقادم، مفتوحة لكل من يريد من النخب العربية أن يفكر بطرق جديدة تجمع بين الحريات والحقوق بين الآليات الضامنة لكل الاطراف ضمن دولة عادلة. النماذج القديمة لن تصمد إلا لسنوات، وقد تصمد لخمس سنوات أو لعقد، لكنها ستنهار عندما تشيخ وتفقد الروح الشرعية التي ميزتها قبل عقود تاركة الباب للفوضى. يجب التأقلم مع زمن جديد يدق على كل بوابات النظام العربي القديم.
أتساءل من المسؤول عما آلت اليه الأوضاع في البلدان العربية؟ من المسؤول فعلاً: ضعفاء العرب وفقراؤهم ومهمّشوهم أم قادتهم وأقوياؤهم وأنظمتهم؟ هل نلوم الأسد أم نلوم الشعب السوري؟ وهل نلوم القذافي أم الشعب الليبي؟ لهذا فالإجابة الغريبة التي نسمعها كل يوم في ظل الاوضاع العربية المتحولة: العرب غير مهيأين للديموقراطية وهم لا يعرفون كيف يمارسون عملاً مدنياً أو ديموقراطياً. هي إجابة مبتورة تهمل بوضوح تلك السياسات الرسمية التي ساهمت في إعاقة قدرة المجتمعات العربية على ممارسة حقوقها.