بداية كل ما سيرد هنا لا يخص غير المجتمعات الديمقراطية التي دفعت فواتير الحرية من دمها وعرقها وتضحيات المخلصين لأجل نصرة قضايا التحرر من كل أشكال العبودية.
ما الذي يحدث في فرنسا من تقدم كبير لليمين المتطرف بزعامة ماري لوبان؟ وما مصدر الشجاعة التي تجعل المرشح الرئاسي دونالد ترامب يطالب بمنع دخول المسلمين حتى تعرف أميركا رأسها من أخمص قدميها في حربها ضد الإرهاب؟
في كل وطن ديمقراطي، في كل حزب، في كل جماعة ضغط، توجد أجنحة تتبنى أفكارا لا تنتمي إلى البيئة التي تعمل فيها، ولا تجد فرصتها للظهور والانتشار إلا في أوقات انتشار وباء الخوف وصدمات الرعب التي ترجّ أركان المجتمع من أقصاه إلى أقصاه، وأخطر ما في ذلك الأمر هو التزامن بين الخوف والانتخابات ووصول المتطرفين لسدة اتخاذ القرار.
اليمين المتطرف كان موجودا في الحزب الجمهوري أيام جورج بوش الأب، ومنزويا في دوائر اتخاذ القرار حتى وقعت أحداث سبتمبر ليشن بوش الابن حربين ويحتل بلدين، قالباً موازين القوى في منطقتنا ومستنفرا جميع قوى التطرف المقابل نحو تأزيم العلاقة بين العالم الإسلامي والدول الغربية، ودفعها نحو المزيد من الاحتقان والنفور.
اليمين المتطرف في فرنسا ومنذ لوبان الأب كان يمتلك قاعدة متأرجحة تزيد وتنقص وفق الأجواء العامة تجاه قضايا المهاجرين والبطالة والجريمة، وحتى عندما اقترب لوبان في انتخابات رئاسية سابقة تحالف المتخاصمون ضده لأجل الحفاظ على هوية فرنسا ليخرج هو وحزبه من السباق.
ألمانيا التي تقدمت صفوف الإنسانية في استقبال اللاجئين، ومعها مجموعة من الدول الأوروبية التي وافقت على نظام الحصص “دعست” على “فرامل” حماسة الاستقبال، وتراجعت عن الحصص المقررة تحت وطأة الذعر العام من تفجيرات باريس، وما قد ينحشر بين آلاف المهاجرين الأبرياء من ذرات الإرهابيين، علما أن الإرهاب الذي ضرب باريس صناعة أوروبية بلجيكية!!
الخوف عندما يعم يعمي ويربك أصحاب البصيرة تحت وطأة ضغط المسؤولية في الحفاظ على أرواح الناس، المهم أن يكون التعامل مع تلك الأحداث حازما ومقنعاً بما يكفي للجم الأجنحة المتطرفة التي تستغل الأداء الضعيف في المطالبة باتخاذ إجراءات متشددة ضد العمالة المهاجرة والأقليات الدينية والعرقية لحماية الأمن وتوفير فرص العمل لأبناء البلد، وبعض الحكومات في المجتمعات الديمقراطية تضطر لاتخاذ بعض الإجراءات الاحترازية كمراقبة الناس واتخاذ بعض الإجراءات الخشنة ضدهم، ولكن كل ذلك يتم تحت مظلة الاستثناءات والمواقيت المحددة.
في الختام، أميركا لن تكون أميركا التي نعرفها مع ترامب، وفرنسا لن تكون فرنسا التي نعرفها مع لوبان، وهم أي الأميركيين والفرنسيين وغيرهم يخشون ذلك أكثر منا لأنهم لا يريدون تكرار النماذج الدكتاتورية التي ضحوا بالكثير لمحاربتها ووقف تمددها.