تكمن قوة المجتمعات وتميزها في مقومات جوهرية، تحقق تماسك نسيجها الاجتماعي وتضمن تعايش مكوناتها السكانية في إطار من الوئام والسلم الاجتماعيين، وفي ظل نظام مرجعيته القانون وتسوده المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، وكلما وهنت تلك المقومات أو لم يكن لها وجود في الواقع، تعرض المجتمع لهزات ولأسباب تفككه وتشيع فيه الفرقة والتشرذم والانقسام، وربما القلاقل والاضطراب بين مكوناته المتعددة.
وقد اجتهدت الدول والأنظمة في تكريس مقومات وحدتها، وهو ما فطن إليه الآباء والأجداد منذ أن تأسس المجتمع الكويتي، فأشاعوا بينهم الود والتسامح واستيعاب الآخر والتضحية من أجل المجموع، ونبذوا مظاهر التنابز بالألقاب والسخرية والتعصّب واستهجنوا إثارة الفرقة والتحريض الفئوي، ما تمخض عنه مجتمع متماسك، رغم التعدد في مكوناته وتباين فترات هجراته، وظلت تلك سمة اشتهرت بها الكويت وشعبها، وحرص بناة الدستور على تكريسها فيه، وهو ما ارتسمت ملامحه بالمواطنة الدستورية التي أساسها الانتماء للوطن ونبذ أي انتماءات فئوية او عصبيات تمزيقية.
إلا أن المتابع لشؤون الوطن يقلقه ما لاحت نذره منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، وأخذت تتزايد مظاهره منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، إذ بانت باعتقادي ظواهر الاستقطاب الفئوي من خلال تقسيم خاطئ للدوائر الانتخابية (بدءاً من 25 دائرة وانتهاء بـ5 دوائر بـ4 أصوات ثم بصوت واحد)، ما أفرز كونتينات فئوية وقبلية وطائفية، بل وعنصرية داخل الدولة، تتجلى بأبشع صورها في مرحلة الانتخابات البرلمانية، وقد سرع من وتيرتها أسلوب فرّق تسد، ظنا من البعض أن ذلك يجعل الأمور تحت السيطرة، وهي السياسة التي انعكست وبالاً لشرذمة المجتمع، فبدأت عجلة التفتيت المبرمج للمجتمع تتوالى، إذ فرّزت الكويت لمناطق فئوية نتيجة سياسة إسكانية خاطئة، تم في رحابها تشجيع تبادل المساكن، وتيسير نقل القيود الانتخابية، والتدخل والتأثير في انتخابات الجمعيات التعاونية، ما كرس المناطقية الفئوية.
ثم جاءت السياسات الأخرى من قبل البعض في مجالس الأمة والحكومات في تفتيت المجتمع وتحويله لمشروع الفئة بدل الدولة في سياسات وتشريعات التعليم وتسمية المناطق والشوارع، وفي تغذية عصبية الفئة بتعزيز فكر شيخ قبيلة وديوانية العصبة ومبرات الطائفة والمذهب وخلق زعامات للفئات العصبية، بفتح قنوات وأشخاص الخدمات الفئوية بشكل مريع، ما خلف مجتمعاً مفككاً تنخره العصبيات، وقد انتقلت عدواها لطلاب الجامعات، فصار تنافسهم على أساس انتمائهم الفئوي، لا الفكري أو السياسي أو البرامجي، ما صار خطراً حالاً ومهدداً للوطن وسلمه الاجتماعي. وبعيداً عن الخطب والتنظير، فلا مفر من إعلاء المواطنة للدولة والقضاء على كل مسببات الفئوية.