قبل أيام، ظهر آندرو نيل، على برنامجه This Week على BBC1 البريطانية موجها رسالة “تهزئة” إلى أتباع داعش على خلفية هجمات باريس. ربما ما ميز ظهور نيل الصارخ الذي تلقى ردود فعل قوية إيجابية هو ليس فقط المونولوج المسرحي الذي أداه في برنامجه وكأنه خطبة حماسية سياسية أو جزء من مسرحيات شكسبير، بل ربما لشيء أعمق هو أن ما قاله ربما كان الكثير من الأوروبيين والإنجليز أيضا ليسوا واثقين تماما بشأنه أو لربما ليسوا واثقين من جرأة التعبير بشأنه. وذلك لأن هناك نوعا من الشك بأن الديمقراطيات الغربية قد تكون تسببت بطريقة أو بأخرى في ما حدث ويحدث من إرهاب. وكأنما نيل بصوته العالي وبحسمه هذا بدد تلك الشكوك الصغيرة المختبئة. ولا شك أن نيل رفعت له القبعات لا سيما أن ظهوره هذا عوض بشكل لائق عن تغطيات المحطة التي وصفت بالباهتة للحدث.
مضى نيل في خطبته بتعداد رمزيات العظمة الفرنسية بقوله “فرنسا .. وطن ديكارت، بوليه، مونيه، سارتر، روسو، كامو، رينوار، بيرليوز، سوزان، جوجان، هيوجو، فولتير، ماتيس، ديبيوسي، رافيل، سان سون، بيزيه، ساتي، باستير، موليير، فرانك، زولا، بلزاك، بولونك، العلوم المتطورة، الأدوية العالمية، القوات الأمنية، الطاقة النووية، كوكو شانيل، شاتو لافيت، كوكو فان، دافت بنك، زيزو زيدان، جوليت بينوش، الحرية، المساواة، الإخاء.. وكريم بروليه. ضد ماذا؟ “قطع الرؤوس، الصلب، وبتر الأطراف، والعبودية، والقتل الجماعي، قذارة العصور الوسطى، بربرية عبادة الموت التي تجلب العار حتى للعصور الوسطى. أعتقد أن النتيجة واضحة للجميع إلا أنتم، مهما كانت الفظائع التي باستطاعتكم تنفيذها، سوف تخسرون، في ألف سنة من الآن باريس تلك المدينة المضيئة بالأنوار ستكون مشرقة ساطعة بينما أنتم ستكونون مثل الغبار جنبا إلى جنب مع الفاشيين، والنازيين، والستالينيين الذين سبق أن تجرأوا على تحدي الديمقراطية، وفشلوا”.
المفارقة أن اللغة العسكرية والمفردات التي استخدمها نيل تذكرنا بصورة ما بخطبة ستالين نفسه للروس ليحمسهم للمقاومة إبان الحرب العالمية الثانية. كان ستالين يخطب على المذياع ونازيو هتلر على أبواب موسكو بقوله “هي دعوة للدفاع عن روسيا الأم، وطن بوشكين وتولستوي..” مستخدما رموز وقوة روسيا الناعمة المؤثرة. ولا شك أن نيل خاطب الوجدان الإنجليزي والأوروبي العام والأمريكي أيضا وحرك مشاعر الفخر مذكرا بالأسس الديمقراطية، من خلال التخصيص الفرنسي هذا. ويبدو أن هناك نوعا من القبول للخطابة الحماسية التي تقدم دفعة جيدة.
لا شك أيضا أن القوى الناعمة الحقيقية ترثها الحضارات باعتزاز وفخر لا جدال فيه، مقابل احتمال بهتان القوى الأخرى السياسية وحتى العسكرية. الثقافة العميقة تؤثر وتغير وجه الأمم. وقد اعتنت فرنسا اعتناء حقيقيا بترسيخ عظمة الفرنسي كمهمة أساسية منذ إنشاء فرنسا وزارة الثقافة بكيانها المؤسسي في عهد شارل ديجول. ولطالما اهتمت وزارة الثقافة الفرنسية بدعم الهوية الفرنسية من خلال رموزها وطبيعتها الثقافية والاجتماعية، من ذلك تأسيسها ما يعزز ذلك من متاحف لعظمائها مثل: متحف منزل فيكتور هوجو، ومتحف إيديث بياف، ومتحف أورساي وغيرهم. وإن بقي تاريخ بعض السياسيين عميقا، فإن فرنسا وروسيا اليوم لا تعرفان بنابليون وستالين ولا حتى ألمانيا بهتلر بل نيتشه وجوتة، كذلك إنجلترا بشكسبير وبرنارد شو وغيرهما. الأمر نفسه بالنسبة لدول الشرق الأوسط مع الفارق والاختلافات. الثقافة هي الوجه السياسي الأعمق أثرا. يتغير السياسيون وتبقى حضارة الشعوب بعلومها وثقافتها ووجهها الإنساني، والأهم بأسسها الديمقراطية الراسخة التي تحفظ كل هذا.