أنا واحد من الذين يصيبهم قلق وهواجس كثيرة قبل زيارة أي إدارة حكومية لإنجاز أي معاملة، أتوجس خيفة أن يكون الموظف المسؤول في حالة مزاجية سيئة، أو أنه غير موجود، أو أنه يريد أن يباشر نوعاً من سلطة رفض المعاملة، كي يتلذذ بسادية الأمر والنهي على خلق الله، أو أن هذا الموظف لا حول له ولا قوة، فهو القانون واللوائح والتعليمات التي تتطلب المزيد من الأوراق في دوائر مغلقة من الغباء والفساد الإداريين، وهكذا تمضي دروب المعاناة والقلق من غير نهاية.
صديقي “أحمد. ف” يملك فيلّا جديدة، أراد إيصال التيار الكهربائي لها حتى تستقر فيها ابنته، موظف البلدية (التي تعجز التريلات عن حمل فسادها) كتب رقم القسيمة السكنية خطأ بالكتاب الموجه لوزارة الكهرباء لإيصال التيار، بعد مراجعة موظف “الكهرباء” المعاملة، أخبر مندوب “أحمد. ف” بأن عليه أن يعود مرة ثانية للبلدية كي يصلح الخطأ، عاد المندوب إلى البلدية لتصحيح الخطأ المادي، فأخبره موظف البلدية بأنه لابد من كتاب رسمي من “الكهرباء” يطلب التصحيح، عاد المندوب من جديد لموظف الكهرباء الذي طلب منه بدوره أوراقاً أخرى من البلدية توضح الأمر،،،، ظل المنزل من دون كهرباء عدة أسابيع، ومندوب “أحمد. ف” يقفز بين البلدية ووزارة الكهرباء بسبب خطأ مادي برقم القسيمة.
“أحمد. ف” يعلم أنه يمكن أن ينجز المعاملة من دون لف ودوران لو “كشكش وقدم المعلوم” لوكلاء الدولة بالبلدية، لكنه يرفض، ليس بخلاً، بل لأنها قضية مبدأ… أي مبدأ هذا في زمن ذابت فيه مبادئ قيم العمل والأخلاق في مستنقعات الفساد الإداري؟!
مندوب مكتبي ظل بدوره يطرق قسم شهادات الرواتب بوزارة الشؤون عدة مرات من دون جدوى، للحصول على شهادة تحويل أجور العمالة للبنوك المحلية، يذهب مندوب المكتب “سانتان” قبل موعد فتح شباك الإدارة بثلاث ساعات للحصول على رقم المعاملة، الشباك يفتح الساعة الرابعة عصراً، وسانتان “ينلطع” عند الباب من الساعة الواحدة، قبل فتح الشباك أخبره العامل المسؤول عن توزيع الأرقام بأن كروت الأرقام انتهت! مرة ثانية يعود الفاضل “سانتان” للإدارة من جديد في يوم آخر، يحصل على رقم المعاملة، وبعد ساعات طويلة من الانتظار، يخبره دولة الموظف بأن الأوراق ناقصة، وعليه أن يعود بعد استكمالها.
يعود مرة ثانية وثالثة ورابعة… وفي كل مرة… هناك دائماً كليشيه عبارة “أوراق يجب استكمالها”.
ما هذا؟ هل هي إدارات خلقت لاستقرار وتنظيم معاملات البشر في دولة القانون، والبيروقراطية هي القانون، أم هي إدارات لتعذيبهم وإذلالهم؟ إدارات خاوية بدولة ورق بورق، تضج كل كلمة وكل حرف على سطورها بمعاني الفساد والاتكالية والفوضى وغياب روح المسؤولية، دولة رغاء وثرثرة ووعود بالإصلاح الإداري من كبار المسؤولين، ليختم هؤلاء مشوارهم السياسي والإداري بجملة الإقرار بعجزهم عن الإصلاح، ويقولون لنا إن “الشق عود”!
قضايا التيه في صحارى الضياع الإداري لا تنتهي، ولابد أن لكل فرد منا همومه وقلقه من الاستبداد (أو الفساد،) بإمبراطورية الموظف العام، لا يمكننا أن نصنع شيئاً حيالها، سوى أن نستورد من أستراليا “كانغروات” لتحل مكاننا ومكان البشر المندوبين، نضع كل معاملة في الجيب البطني للكنغر، ويقفز هذا من إدارة حكومية لأخرى متجنباً الاختناقات المرورية، لتنتهي قضيتنا المستحيلة مع إدارات دولة الورق، بينما نتكئ بدورنا في مكاتبنا ومنازلنا، ولا فرق بينهما، ننتظر عودة المندوب كنغر، نقضي وقت الفراغ القاتل في التسلية بقراءة أخبار أحكام الحبس لمغردين عبروا خطأ عن رأيهم بقضية عامة، فكان القانون لهم بالمرصاد… فلنقدم التحية للعم كنغر، وتحياتي للقانون ودولة قوانين الكنغر.