في مقال ذكي للكاتب الإنكليزي هوارد جاكبسون في “الإندبندنت” (عدد الأمس) يبدأ الكاتب نقده الساخر عن طفلة تسأل خالتها: “لماذا يضعون غطاء على عيني الحصان؟”، وكان جواب الخالة: “يفعلون ذلك حتى يستطيع الحصان أن يسير بصورة مستقيمة ولا يشغله أي أمر جانبي على الطريق”، جاكبسون كان يعلق على لقاء تلفزيوني للمحاضر في علم الاجتماع العراقي سامي رمضاني في محطة “إل بي سي”، عن العملية الإرهابية لداعش في باريس أو الضاحية الجنوبية، يقول فيه سامي إنه مثلما يد داعش ملوثة بالدماء، كذلك يد الحكومة الفرنسية ملوثة بالدماء، بدعمها للإرهابيين في سورية…!
إذن حسب تعليل سامي للجريمة الإرهابية بفرنسا، فإن الإرهابيين عوضاً عن أن يقدموا الشكر للحكومة الفرنسية على دعمها لهم قاموا بقتل مواطنيها…! لنترك مقال جاكبسون، ولنلق نظرة على أغرب خرافات حكايات ألف ليلة وليلة عند فقهاء التفسير التآمري للحدث التاريخي. بداية، أقر بأن هناك بالواقع عنصر المؤامرة السياسية في كثير من الأحداث السياسية، فمثلاً كان خلق الدولة الإسرائيلية، وتقسيم العالم العربي، خلال، وبعد الحرب الكونية الأولى، لكيانات مفتتة هي نتيجة “تآمر” سري للدولتين الإمبرياليتين فرنسا، والمملكة المتحدة، وهناك أحداث كثيرة حدثت وتحدث بالعالم مثل التآمر الأميركي في الانقلابات العسكرية بأميركا اللاتينية، لخلق أنظمة قمعية تسير تحت ظلال الولايات المتحدة، ونذكر دور المخابرات الأميركية المرعب في انقلاب “بنوشيه” بتشيلي 73، كمثال فذ للمؤامرة الإمبريالية بتلك الدولة.
لكن هناك حدوداً لهذه العقلانية التآمرية، حين تنقلب إلى عبط تفسيري، لكل كارثة ومصيبة تصيب الدول والشعوب، فحين يقول البعض (منهم كتاب كبار) إن ضرب مركز التجارة الدولية بنيويورك 2001 من “القاعدة” كان مؤامرة من “سي آي إيه”، حتى تخلق أميركا المبرر للتدخل بدولنا، أو أنه من عمل الصهيونية بدليل أن كل اليهود الذين كانوا يعملون بالمركز لم يداوموا في صبيحة يوم التفجير، مع ان الواقع أن كثيراً من اليهود قتلوا بمراكز عملهم ذلك اليوم، بتقارير رسمية نشرت في ما بعد… وحين يقرر، اليوم، أصحاب ألف ليلة وليلة، أن تفجيرات باريس من صنع المخابرات الفرنسية، بدليل وجود جواز سفر سوري قرب جثة أحد الإرهابيين…!!
ولا يختلف التفسير التآمري للحدث التاريخي عن الشطحات الفكرية، عند جماعة قريبة منهجياً من مفسري نظرية “بلغني أيها الملك السعيد”، وهي الجماعة التي ترى أن كل إرهاب قوى الجنون التي تضرب العالم اليوم من فرنسا، إلى مالي، مروراً بدول شرقنا القمعية بأنظمتها وتخلف الفكر العقلاني عند أكثرية شعوبها… هي أيضاً رد فعل لجرائم استعمارية قديمة، فعندهم، كانت جرائم الدولة الفرنسية نحو ثورة الجزائر نهاية الخمسينيات القرن الماضي، ومجازرها – لا ينكرها أحد عند الفرنسيين – تفسر تفجيرات باريس اليوم.
مثل هذا التفكير “التآمري” مريح عقلياً عند أصحابه، فهو يضع التحليل المنهجي لمسيرة التاريح جانباً، ويقذف ملاكه بالعقلانية، وهي تعني ربط النتائج بأسبابها بما يقبله العقل، في مزابل التاريخ، ويتمسكون بالوهم والميثولوجيا، وهي الخرافات التي يضج بها تاريخنا، والتي ما زالت تعمل بكفاءة، منقطعة النظير، في اللاوعي العربي.
فقهاء ألف ليلة وليلة لا يصح حصرهم في حركات السلفية الدينية، فهم يتمددون بالطول والعرض عند القوميات الشوفينية المتطرفة، مثلما روج النازيون لكتاب “بروتوكلات حكماء صهيون” كأحد التبريرات لمجازر الهولوكوست، أو عند اليسارية المراهقة الفجة.
للمفارقة، نجد، في أحايين كثيرة، العديد أو القليل من جماعات السلفية الدينية، من هم أكثر قدرة من بعض التآمريين القوميين واليساريين في تفسير حركة التاريخ. على ذلك يصبح اقتباس عبارة الراحل د. فؤاد زكريا بأن الإسلاميين يقدمون أسهل الأجوبة لأصعب الأسئلة، غير محصورة بالسلفية الدينية، وإنما يعم قصورها الفكري لكل سلفية منغلقة سواء كانت قومية أو يسارية، حين تعمي أصحابها عن قراءة الواقع بالمنهج العملي، وتنتقي من مسيرة التاريخ الأسهل والأشد سذاجة لتبريراتها التفسيرية لكوارث اليوم، كلهم مثل حصان جاكبسون يرون جانباً من الطريق، يظنون أن دروبهم مستوية مستقيمة، بينما عيونهم مغلقة لا ترى حفراً ومطبات قاتلة على جانبي الطريق.