الصغيرة اسمها فاطمة أو زينب أو اختاروا لها الاسم الذي يناسبكم، فهذا لا يهم، فما جدوى اسم الإنسان حين تعدم هويته وينفى من وطنه، ليس بالإبعاد وتسفيره لمكان خارج الحدود، أي حدود الدولة الرسمية التي ولد فيها وولد قبله والده أو أهله وحملوا هويتها، وأصبحوا مواطنين… إنما يتم نفيه وإعدامه كـ”شخصية” قانونية داخل “وطنه” الذي لم يعد وطنه، ليس بإرادته الحرة وإنما بقرار “مرقم” مكتوب بورقة وقلم وطبع… ونشر في جريدة رسمية برقم.
مؤقتاً، لنسمها فاطمة البرغش، من جديد، اسمها ليس مهماً، واسم عائلتها لم يعد موجوداً في أوراق المواطنة الرسمية… أسقط عمداً و”بحكم القانون” القاسي من ملفات المواطنة، ببساطة شطب اسمها وأسماء إخوانها وأخواتها ووالدها، وأبناء عمومتها… وربما غيرهم… لا يهم عددهم عشرون… ثلاثون… أربعون… خمسون… الأرقام ليست مهمة… الأرقام تدل على عدد بشري… عدد إنساني… وكلمة إنساني تعني أن له وجوداً مادياً، وبالتالي، له حقوق وعليه التزامات، وغير ذلك مما أبدعه الفكر البشري المتقدم في معنى الانتماء والمواطنة والحقوق التي تؤخذ مأخذ الجد عند الدول التي قام وجودها على فكرة المواطنة، ولكنها بضاعة منقولة يمكن وهبها بقرار… ويمكن استردادها، أيضاً بقرار، كسلعة في مثل أوطاننا.
الكويت من “أوطاننا” هي دولة تعشق سلطتها الأعداد والأرقام، وقررت، في أحد الأيام وسالف الزمان، أن الأعداد، أي أعداد السكان، قليلة، ولا يمكن الثقة بهم والاطمئنان لولائهم، فكثير منهم مزعجون… هم قوميون… يساريون، أو أي تصنيف آخر لا يستطيع أهل القرار فهمه ولا هضمه، فقالت السلطة لنفسها، لنزد أعدادهم، ونوازن الأمور ويستقر الولاء الجديد لأبد الآبدين.
قررت، وحكمت بحكم نافذ لا يقبل المراجعة ولا المراقبة، لا تنسوا أنها قررت منفردة بحكم عادتها الأصيلة المزمنة، فهي صاحبة سيادة، وهي القانون وفوق القانون وتحت القانون ومن جانبيه، وفرضت عدداً جديداً من بشر كانوا منسيين في صحاري الأرقام الجرداء، زاد أهل القرار العدد بين ليلة وضحاها… زادوا العدد بعد أن سحبوا من خياش الأسماء المرقمة أوراق يانصيب الكثيرين من مستحقين وربما غير مستحقين للعبة الأرقام ونسوا غيرهم… بعض المستحقين الفائزين بالقرعة، كان لهم معارف وعلاقات “معهم” أي مع أهل القرار… ومن كان يملك “المعرفة” طبعاً ليست معرفة الفكر والعقل والكفاءة، إنما معرفة أسماء النجوم في الحكم، تفتح له، تلقائياً، أبواب الخير على مصاريعها… أراض، مناقصات، منح، عطايا، معاملة خاصة في الإدارات… لا ينتظر ألف ساعة في الطوابير الممتدة كي يسيل منه العرق بخطوط بيضاء بلون الملح من قفاه، ويرسم ظلالاً بنصف دوائر رطبة تحت ابطيه.
هم “المستحقون بقرعة المعارف” لا يحملون “الأرقام” ولا ينتظرون دورهم في إدارات يغيب عنها كثيراً موظفو التوقيع والختم والبصم والشاي والسندويشات والتنقل اليومي بين المولات… لهم الكثير وأكثر من الكثير، وأهم من كل ذلك لهم “برستيج” الجنسية ومشتقاتها النفطية.
ماذا حدث… نسيت الصغيرة فاطمة البرغش… نسيتها لأنها رقم… شطبه الكبار من ملفات الدولة، وصمت الكثير من شعبنا عن شطبها وشطب غيرها… ألم يسمنا عبدالحسين عبدالرضا في زمن مضى بأننا “شعب بني صامت” في مسرحيته القديمة التي أخرجها زميلنا نجم عبدالكريم… كنا صامتين من ذلك اليوم حتى الآن على خشبة مسرح الجناسي المغبر.
الصغيرة فاطمة… لا تعرف كل ذلك، ولا تعرف شيئاً اسمه مرسوم أو عمل من أعمال السيادة أو محاكم واختصاص وعدم اختصاص، ولا تعرف كلمات غريبة مثل سحب، إسقاط، فقد، فهي صغيرة وتلك الأمور من عمل الكبار…
فاطمة تعرف أنه كانت لها مدرسة، وكان لها زميلات في الصف، وتعرف أنها حين تذهب أحياناً لزيارة طبيب أو مستشفى، كانت والدتها… تقدم بطاقة صغيرة مكتوب عليها اسمها، ورقمها… الآن عرفت أنها لم تعد تملك هذا الرقم، ضاعت بطاقتها… ضاعت مدرستها وضاعت رفقتها مع زميلاتها وضاعت وفرحتها وبهجتها وطفولتها… ضاع رقمها… ضيعوه رغماً عنها… لا تعرف فاطمة ماذا صنعت وأي ذنب ارتكبت… كل ما تعرفه الآن أنها موجودة، واسمها فاطمة، وكان لها “رقم”… وتم شطب هذا الرقم، أضاعوه… وانتهينا.