الجانب المحزن في العمليات الإرهابية التي هزت العاصمة الفرنسية أن يد الإجرام طالت، وبكل صفات الغدر والخيانة، مجموعة من الناس الآمنين والمسالمين وهم يقضون إجازة نهاية الأسبوع قاصدين فيها المرح والتسلية، بعد عناء أسبوع من العمل الجاد والمنتج، وهذا الألم بالتأكيد يستشعره الكثير من الناس على امتداد العالم العربي والإسلامي طوال السنوات القليلة الماضية، حيث خطف الإرهاب فلذات أكبادهم وذويهم وأحباءهم في المقاهي والأعراس وفي الجامعات وفي المساجد والكنائس، بل حتى في بيوتهم الآمنة ومحلاتهم التجارية ومصدر رزقهم، وكان آخرها جريمة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية ببيروت.
لكن ما يجمع ضحايا باريس وبقية ضحايا الإرهاب في سورية والعراق ومصر وليبيا وباكستان وأفغانستان ودول الخليج أنهم في الغالب ثمن مخططات بعض الحكومات وأجهزتها الاستخباراتية وأهدافها السياسية وفكرها المنحرف، وأخيراً مصالحها الضيقة التي قد لا تتعدى منافع الزمرة الحاكمة والمقربين منها.
فرنسا، ذلك البلد العريق ومهد الديمقراطية وثقافة الحرية، لم تختلف كثيراً عن عموم الحكومات العربية والإسلامية في سياستها الخارجية، خصوصاً في ظل حكومة اليسار الحالية، في ما يتعلق بازدواجية المعايير وتغليب المصلحة الانتهازية على مبادئ الثورة الفرنسية وإرثها الإنساني والحضاري.
السياسة الفرنسية، وبخلاف حتى محيطها الأوروبي الأكثر اتزاناً وحكمة في الشرق الأوسط، تعكس غطرسة وغروراً غير مسبوقين، وبقدرة قادر برزت باريس وكأنها الآمر الناهي في العالم العربي، ومع ذلك اختارت البديل السيئ، حيث ركزت السياسة الفرنسية على التحالف والتنسيق مع الحكومات المتورطة بشكل مباشر أو غير مباشر، في دماء الشعوب العربية، وهي التي وفَّرت الغطاء السياسي والدعم الإعلامي للجماعات الإرهابية، ولم تتكبد عناء منع تدفق المرتزقة من أراضيها إلى البلاد العربية، ولاسيما سورية والعراق للقيام بكل أشكال القتل والتدمير.
الحكومة الفرنسية، سواء بقصد أو بدون قصد، وسواء عبر استرجاع حلمها الاستعماري أو طموحاتها العالمية الجديدة، وسواء بجهل أو غباء سياسي، قد شجعت فكر وتوجهات الجماعات الإرهابية في ما يخص إعادة تقسيم الدول العربية، ووزير الخارجية الفرنسي لم يتردد حتى قبل أسبوع واحد فقط في الإصرار على تقسيم سورية والعراق، وهو حلم تنظيم “داعش”، أما استراتيجية فرنسا بإغراق منطقة الشرق الأوسط بالسلاح فلم تعد خافية، حيث قفزت إلى المرتبة الأولى في الدول العربية من حيث تصدير الأسلحة، كما أن فرنسا تعتبر من أهم مصادر ترسانة داعش، وبلغت نسبة الأسلحة الفرنسية التي يستخدمها هذا التنظيم حوالي 70 في المئة!
على فرنسا إذاً كدولة صديقة للعرب أن تراجع هذه السياسة العنترية والأسلوب الانتهازي اللذي لم تعتدهما باريس منذ الحرب العالمية الثانية، ليس حباً للعرب فهذا مستبعد أصلاً، وإنما حرصاً على مواطنيها في عاصمة النور!