كان الحلاق الهندي اللطيف، يعبّر بشكل واضح عن سروره بما ينعم به مجتمعه. كنا حينها نشاهد لقطات على شاشة التلفاز لقناة فضائية اسمها «كيران». واللقطات عبارة عن مشاهد لمسلمين يؤدون الصلاة في المساجد والجوامع والحسينيات. تعقبها لقطة أخرى للهندوس في معابدهم، وللمسيح في كنائسهم. وهكذا مع أتباع مختلف الديانات.
يبتسم الحلاق ويقول: «هذه هي الهند. لا نعرف الطائفية والمذهبية. ليس مثلكم… نفر واجد مجنون… خربان».
أتذكر في العام 1993، عندما هدم متطرفون هندوس مسجد «بابري»، وهاجت على إثر ذلك العمل الشنيع جموع المسلمين في كل مناطق الهند، بل وهاجت مشاعر المسلمين في كل بقاع العالم، تحركت شخصيات وعلماء وقيادات ورموز دينية واجتماعية وثقافية من كل الديانات والأعراق في الهند لتقف موقفاً تاريخياً يدحض الفتنة في مهدها.
تلك البلاد التي تزيد عدد النفوس فيها على 300 مليون، استطاعت أن تنقذ البلاد والعباد من هلاك التشدد والتكفير والتطرف والطائفية. ولم تسمح لـ(نفر مجنون خربان) أن يدمر تعايشها. وهذا ما عجزت عنه الكثير من الدول العربية والإسلامية.
الفرق، أن في المثل الهندي كانت «الإرادة الرسمية والشعبية» جامعة، أما في أمة العرب والإسلام (فلا إرادة ولا يحزنون).
في الحقيقة لا أدري، أنا الفقير لله المواطن البحريني الخليجي العربي المسلم، كم مرة قرأت وسمعت وشاهدت من يزأر بقوة مطالباً بتوجيه ضربة قاضية إلى «الطائفية»! مسئولون وخطباء وعلماء ومفكرون وكتاب… بل وحتى راقصات ومهرجون ومهرجات… ومن لف لفهم ولفهن.
هي مرات لا تعد ولا تحصى، والإخفاق والفشل هو حليفها بعدد مراتها التي لا تحصى. هكذا إن أردنا الحديث دون تلوين المشاعر وتزييف الواقع والإدعاء بأن الأمور على خير، سواء قبل العام 2011 أم بعده. الحقيقة المدوية، أن مجتمعاتنا كانت ولاتزال طائفية، لكن، لا أعلم، هل ستبقى كذلك أم أن معجزة ستحررها من ذلك الوباء المدمر.
لا بأس إن أشرت إلى مقال الأسبوع الماضي: «متشددو السنة والشيعة… أرذل جمهور في أقبح مباراة»، فالكثير من الاتصالات والنقاشات والمداخلات وردت من عدد كبير من الأخوة والأخوات القراء الكرام، كانت كفيلة بأن تبشرنا بوجود عقول راقية وقلوب نقية النوايا قلبها على الوطن، فيما كان في المقابل عدد لا بأس به أيضاً من الأعزاء، كأنما يشترطون لكي يقبلوا ما جاء في المقال، أن يكون «طائفياً»! يعني أيها الكتّاب، لا تكونوا منصفين ومتجردين وموضوعيين. عليكم أن تنضموا إلى هذا الفريق أو ذاك، وأن تهاجم هذا الحزب، أو تلك الجماعات، أو هاتيك المجموعات المسلحة، أو ذلك الخطيب أو ذاك المعمم أو تلك المجموعة من التكفيريين.
على أية حال، كل جمهور يعرف في قرارة نفسه إلى من ينتمي، وليس في وسعه أن يضم الآخرين إلى جمهوره والعكس صحيح! تلك أصلاً هي المشكلة أيها الكرام: «أن تقرأ للكاتب وفق انتمائه المذهبي لا الوطني. وأن ترصد أنفاسه وأفكاره وفق معتقداته لا وفق فكره الحر. وهذه قيود صلبة في عقول الطائفيين، مهما كان مستواهم ومقامهم ومكانتهم في المجتمع»، ولأن هذه الفئة من العقليات موجودة، فكل يدعي وصلاً بليلى.
لقد تناول الكثير من الأخوة الكتاب والباحثين والمثقفين الخليجيين والعرب الحريصين على استقرار الأوطان، وليسوا أولئك المتاجرين من خلال مقالاتهم بالطائفية، إن عماد الوطن الموحد والدولة المتماسكة ذات السيادة يتمثل باعتماد مبدأ المواطنة المتكافئة كأساس لبناء الإنسان والمجتمع والدولة، وكذلك الإيمان بسيادة الديمقراطية والقانون الضامن للحقوق والواجبات الإنسانية والوطنية، وشمول الكُل الوطني بقيم المساواة والعدالة والحرية والمشاركة والمساءلة والشفافية والتنمية العادلة، كركائز مُنتجة لدولة المواطنة الصالحة والمتطوّرة.
نحن في حاجة إلى إعادة التأكيد على التعايش والتناغم والسلام المجتمعي على قاعدة الاعتراف المتبادل بالآخر واحترام خصوصيته وحقه الكامل بالوطن والدولة. كأسس لازمة لإدراك التحوّلات الراقية في البناء الإنساني والوطني، فلم يعد الأمر مرهوناً بالشعارات فقط، و لا يمكن إطلاقاً أن نقبل بعلماء وشخصيات من الطائفتين، يقدّمون خطاباً محتقناً ولا تخطر على بالهم قيم التسامح وسعة الصدر وقبول الآخر والتحلّي بالمرونة والأناة في التعامل، قدر ما يلح على أذهانهم التمايز والتفوق والهيمنة وإرضاء النزوات.
حتى توجهاتنا لتعزيز النسيج الوطني، تتطلب أن يرافق ذلك جو ثقافي وفكري وإعلامي حر متفتح، يبصر مخاطر الطائفية وتنقية التعامل مع الآخر من أية نزعة طائفية أو أفكار تنتقص من قيمة أية جماعة دينية أو قومية، لكن، بعد كل ما تقدم، هل هناك من تصور يمكن أن نحدد من سياقه العام المسار نحو تقويض الأفكار الطائفية المعوقة للاستقرار الاجتماعي؟
بلا شك، ويمكن أن نبدأ بأمر أساسي، وهو الولاء والمواطنة الصالحة الحقيقية والانتماء إلى البحرين… والبحرين فقط.