أصعب اللحظات، وأكثرها مرارة، هي تلك التي تريد فيها سرد حالة هزيلة ضعيفة تتصارع مع نفسها، من أجل الحفاظ على ما تبقى من كرامتها وإنسانيتها، وتلك التي تقرر فيها تجسيد واقع لم تعد أبصار الناس، ولا بصائرها، تراه وتشاهده من منظوره الحقيقي، فحين يحكم عليك لتكون «بدون» كل شيء إلا ألم ومعاناة ومشقة وتخوين وإهانة وذل وحرمان، تتجه بتضرعك إلى السماء، راجيا إيجاد شفقة تعيش تحت رحمتها، لعلها تفتح لك أبواب الأمل، الذي لم تعد تعرف معناه.
ففي إحدى المحطات الإذاعية، تناول المذيعون ظاهرة باعة الأرصفة والإشارات المرورية، حيث يشكل الأطفال غالبية هؤلاء الباعة، مطالبين «الداخلية» بتفعيل القانون، بالإمساك بهم وبآبائهم، ومصادرة «حلالهم»، لأنه يُعد من جانب، انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، من ناحية تعرض الباعة لأشعة الشمس الحارقة، ومن جانب آخر، يعد انتهاكا للمواثيق الدولية المصادقة عليها من قِبل الدولة، الخاصة بحقوق الطفل، باستخدام براءة الأطفال لأغراض العمل الشاق.
وللأسف، مَن يستمع لطريقة حديث المذيع، يكتشف حجم تغييب العقل في تصديق أن الكويت بالفعل بلد إنساني ووجه من أوجه مدينة أفلاطون الفاضلة، لذلك لابد من وقفة «واقعية» هنا.
هؤلاء يا سيدي ولدوا وترعرعوا وضحوا بأرواحهم وأنفسهم، لخدمة بلدك المركز الإنساني، فقوبلت تضحيتهم بعدم اعتراف بهم.. فبعد كل الذي قدموه لهذا الوطن، من نفس ومال في الغزو، ودم وروح، حين استهدف موكب الشيخ جابر، يعرفهم الوطن على أنهم مقيمون بصورة غير قانونية.
هؤلاء يا سيدي، تاجر بهم نواب الأمة ومسؤولو الدولة أكثر من متاجرتهم بالمال.
هؤلاء يا سيدي، يقضون نصف يومهم تحت أشعة شمس حارقة، ونصفه الآخر تحت ظلام دامس، كي يحصدوا مبلغا، يعادل الذي تصرفه على كوب قهوتك الفاخرة.
هؤلاء يا سيدي، في الوقت الذي تفكر فيه بمشاركة طاولة بأحد المطاعم الفخمة مع أصدقائك، يقومون بتقسيم الخبز بينهم، كي تسير بهم عجلة حياة العدم، التي لا تجرؤ حتى على تخيُّل معالمها.
أما بخصوص أطفال البدون «الباعة»، فقد اختصر نجيب محفوظ حالهم، حين قال «وأحلام الأطفال قطعة حلوى، وهذا الطفل يبيع حلمه»، فهذا والله ما نراه عند إشارات المرور، من تجول للأطفال بين السيارات، لبيع ما يؤنس ويفرح أطفالنا.
يقول جبران خليل جبران: «لا تتعلق بنصف أمل.. ولا تعش نصف حياة»، وهي دعوة للتفاؤل والسعي وراء الأحلام، لحين تحقيقها.
وبالنظر إلى حال «البدون»، تلاحظ أنهم لا يملكون أملا، كي يتشبثوا به كله بدل نصفه، وليس لهم حياة، كي يرفضوا عيش نصفها.. إنسانية البعض المقلوبة تجلت في عدم الالتفاف إلى انتحار شاب «بدون»، للخلاص من هذا الظلم، كما حدث قبل أيام، وعدم مطالبتها بإعطاء هذه الفئة حقوقها المسلوبة وتوفير أبسط سبل العيش الهنيء والكريم، من مسكن ومأكل وصحة وتعليم و«آدمية»، في حين تدعو إلى التضييق عليهم، وحرمانهم من الكسب الحلال باسم الإنسانية وحقوقها!
فتبا لعيش مترف يعطي صاحبه الحق بقلب موازين الحياة، وتصديق ألقاب ومسميات أخذت برائحة الدينار!