العراق الذي أنجب أجمل الشعراء والمثقفين الذين تميزوا غالبا بالعمق، يتفنن مواطنوه المتظاهرون بمختلف الطوائف، في إبداع هتافات في مظاهراته الأخيرة ضد فساد الحكومة، وهي حالة عراقية جديدة. ربما ما ميز هذه المظاهرات أن العراق لم يعش حتى الآن حالة الممارسة الديمقراطية الطبيعية. وبطبيعة الحال من الصعب التنبؤ بما يمكن أن تأتي به هذه المظاهرات والاحتجاجات سوى ردود فعل حيدر العبادي الأولية بالاستجابة مع الشعب والتضامن معه. هو الذي كان يحتاج إلى أن يتمرد مثل الشعب نفسه على دوره الشكلي. وإذا كانت وعود الإصلاح في العراق معقدة مع تغول الفساد ونخره في أجهزة الدولة، إلا أنه يبقى هناك تطور في ثقافة الديمقراطية لدى الشعب العراقي.
فكرة التظاهر في حد ذاتها مؤشر جيد على اليقظة والوقوف في وجه الفساد والتدخلات الإيرانية أو حتى إيصال رسالة ببساطة. لم يحدث أن وقف العراقيون من مختلف الفئات والطوائف في مواجهة فساد السلطة، ومن بين ذلك عهد نوري المالكي المغرق في الفساد، هو الذي خلف وراءه تركة ثقيلة لخلفه حيدر العبادي. أما ما سوى ذلك من بعد سقوط صدام والاحتلال فجميعه تم تحت إدارة خارجية، بما فيه ما يعيشه العراق في الفترة الراهنة من سيطرة إيرانية يحاول العراقيون الانتفاض عليها أيضا حين هتفوا “إيران برا برا، بغداد تبقى حرة”.
ربما كان العراقيون يضحون بحرياتهم بسبب المخاوف الأمنية، إلا أن اختناق العراق أيضا بسبب عدم قدرة المواطنين على التعامل مع الديمقراطية الجديدة. لا يمكن بطبيعة الحال استيراد الديمقراطية دون غرسها محليا، لا سيما في مكان مثل العراق. لذلك ما يشهده العراق الآن هو نظام من الفوضى، إلا أن ما يحدث أمر إيجابي إلى حد ما، فالناس بدأوا يفهمون ما يعنيه العيش في ظل أسس الديمقراطية.
بلا شك مهم جدا ثبات وضع العراق للمنطقة. ربما أجمل ما هتف به العراقيون من أجل الخدمات والكهرباء والتي طالت أيضا فساد التعليم وفساد البرلمان هو مختصر وعنوان لما يحدث: باسم الدين “باقونا” الحرامية!
لا شك أن أمريكا تركت فراغا كبيرا في العراق، ما جعل الجميع يسارع في محاولة لملء هذا الفراغ، ومن بين ذلك الجارة إيران. هو العراق التائه بين السياسيين الفاسدين وبين “داعش” والمليشيات. قد تختفي “داعش” قريبا، لكن ماذا بشأن العراق كدولة ومؤسسات؟ الدستور العراقي اليوم شبه معطل أمام اتفاقات المحاصصة الطائفية والسياسية، والتي لا تزال أهم عائق في تعطل أوضاع العراق التنموية، ومن ثم وقوعها حائلا أمام وصول الخدمات للمواطن. لذا فالتسامح السياسي الذي من ضمنه الشراكة الوطنية والمواطنة والعدل كل ذلك مهم للاستقرار، وفوق ذلك التأسيس لحكومة تكنوقراط.
أمريكا فككت بنية الدولة العراقية دون تركيبها. والنتيجة عانى العراق فسادا ينخر الأجهزة والمؤسسات. هذا لا يعني ربما أن العراق يعاني قصورا في مختلف المنظومات سواء التشريعية أو غيرها، بقدر ما يعاني قصورا في النخب السياسية التي ينبغي عليها تشغيل المنظومات وتحويل أدواتها إلى ممارسات. فهل يستطيع العبادي فعلا احتواء الأمر ومعالجته، أم أن الموضوع أعقد مما يمكن تصوره؟ لا أجد أبلغ من أن أستعير ما قاله شاعر العراق يحيى السماوي:
فإذا بتحرير العراق وليمة.. حفلت بما في الأرض من سراق
ما العجب لو خان الفؤاد ضلوعه؟ إن الذي خان العراق عراقي