فاجأت الصين العالم يوم الثلاثاء الماضي بخفض قيمة عملتها “الرينمنبي” من 6.1162 إلى 6.2298 للدولار، أي بنسبة 1.9 في المائة، ووفقا لبيان بنك الصين المركزي عن الخفض، فقد تم التأكيد على أن هذا الخفض هو خفض لمرة واحدة، وأنه تم استجابة من السلطات لتطورات قوى السوق في تحديد معدل الصرف. وقد أحدثت الخطوة الصينية ردودا عنيفة في العالم، إذ إنه على الرغم من ضآلة نسبة التخفيض إلا أنه يعد أكبر خفض يقوم به البنك المركزي منذ أكثر من 20 عاما. كذلك تراجعت أسواق الأسهم، وتراجعت أسعار السلع التجارية وعلى رأسها النفط، في الوقت الذي ارتفع فيه سعر الذهب، وذلك على خلفية القلق من طبيعة الأوضاع الاقتصادية التي دفعت بالسلطات إلى خفض قيمة العملة. كما تراجعت معظم العملات الرئيسة أمام الدولار، وهو ما يمكن أن يؤثر في قرار الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة في ظل استمرار تصاعد الدولار، حتى لا تتعقد أوضاع ميزان المدفوعات الأمريكي.
تقوم سياسة معدل الصرف الصينية على قيام البنك المركزي بتحديد سعر متوسط كل يوم قبل بدء التعامل على الرينمنبي، ويحاط هذه السعر بنطاق للتقلب في حدود 1 في المائة ارتفاعا، و1 في المائة انخفاضا، وقد استطاعت الصين الحفاظ على استقرار معدل صرفها لمدة طويلة في نطاق محدود جدا للتقلب قدر بنحو 0.06 في المائة، وعليه فإن إقدام الصين على خفض عملتها بمعدل 1.9 في المائة مرة واحدة يعد تجاوزا للحد الأدنى لمعدل الصرف الذي تعمل في نطاقه سياسة معدل صرف الرينمنبي.
إن المتتبع لردة الفعل العنيفة عالميا تجاه الخفض يصل إلى نتيجة مؤداها أن هناك مبالغة واضحة في وصف التحرك الذي قامت به الصين والموصوف بأنه بمثابة الطلقة الأولى في حرب العملات العالمية، وهو ما يعكس أهمية الدور الذي أصبحت الصين تلعبه اليوم في الاقتصاد العالمي، والثقل الذي تمثله الصادرات الصينية في التجارة العالمية في عالم اليوم. حيث يصف بعض المراقبين قرار تخفيض قيمة الرينمنبي بأنه يعد بمثابة إعلان لحرب عملات في العالم، باعتبار أن القرار سيجر الدول الأخرى إلى اتخاذ إجراءات مماثلة للحفاظ على تنافسية صادراتها، أو للسيطرة على وارداتها من الصين التي من المتوقع أن تتزايد بعد التخفيض. فلماذا لجأت الصين إلى هذا الإجراء غير الاعتيادي، وهل بالفعل سيترتب على هذه الخطوة قيام حرب للعملات في العالم؟
يواجه الاقتصاد الصيني منذ فترة مصاعب في تحقيق مستهدفاته حول النمو، بصفة خاصة صانع السياسة في الصين ملتزم بتوفير ما بين 10 و15 مليون وظيفة جديدة سنويا لكي يواجه الطلب على الوظائف من جانب الداخلين الجدد لسوق العمل، وهذا يتطلب من الصين معدلا للنمو لا يقل عن 7 إلى 8 في المائة سنويا. مشكلة استراتيجية النمو الحالية في الصين هي أنها تعتمد أساسا على التصدير، ومن ثم فإن ضمان استمرار ارتفاع معدل النمو يقتضي استمرار نمو عمليات التصدير إلى الخارج. منذ فترة وقيمة الرينمنبي ترتفع بالنسبة للعملات الرئيسة في العالم، ونتيجة لذلك فإن النمو في الصادرات يواجه بعض العقبات الراجعة لارتفاع قيمة الرينمنبي من ناحية، وتراجع الطلب من ناحية أخرى بسبب الأوضاع الاقتصادية السائدة لدى شركاء الصين التجاريين. غير أن بيانات التجارة الخارجية للصين عن حزيران (يوليو) جاءت صادمة بكل المقاييس، حيث تراجعت الصادرات لأول مرة منذ فترة طويلة بنحو 8.3 في المائة، ورغم أن الصين حققت فائضا 43 مليار دولار في هذا الشهر، إلا أن الفائض تراجع بنسبة 10 في المائة.
لطالما اتهمت الصين بأنها تتلاعب بقيمة عملتها لدعم تنافسيتها على المستوى الدولي، غير أن التحرك الأخير يوضح أن الصين بعد أن استنفدت وسائل التحفيز النقدي لتشجيع النمو، لجأت إلى تخفيض قيمة العملة كوسيلة لتحفيز النمو الضعيف الذي تعانيه حاليا، ولكن هل يؤدي هذا التحرك إلى نشوب حرب للعملات في العالم؟
بعض المراقبين يرى أن الخفض سيكون له أثر انتشاري يتحقق نتيجة قيام شركاء الصين التجاريين بخفض قيمة عملاتهم وذلك لمواجهة الأثر المترتب على خفض العملة الصينية. غير أنني لا أعتقد أن هذه الخطوة تعد بمثابة إعلان عن حرب للعملات في العالم للأسباب الآتية:
– أن عملات الدول الناشئة في العالم تتراجع بصورة واضحة أمام الدولار لأسباب تتعلق بالتعافي الاقتصادي الأمريكي مقارنة بالمراكز الاقتصادية الأخرى في العالم، ونتيجة لذلك فقد ارتفع الرينمنبي هذا العام بالنسبة لعديد من العملات في العالم، وعلى رأسها الدولار، وهو ما أدى إلى إضعاف الصادرات الصينية. في تقريرها نصف السنوي الصادر في إبريل الماضي عن معدلات الصرف في العالم، أشادت الخزانة الأمريكية باتجاه الحكومة الصينية السماح للرينمنبي بالارتفاع، وإن كان ما زال مقيَّما بأقل من قيمته الحقيقية. من هذا المنطلق لا يجب النظر إلى قرار البنك المركزي الصيني بخفض قيمة العملة على أنه بمثابة إعلان لحرب للعملات، إلا إذا ما سلَّمنا أنها قائمة بالفعل، وفي الواقع لا توجد دلالات على وجود هذه الحرب، على الأقل على السطح، وذلك إذا ما نظرنا إلى مسار معدلات صرف عملات العالم، ومسار موازين المدفوعات فيه.
– أن خفض العملة بنسبة أقل من 2 في المائة لا يعد تحولا جوهريا في سياسة النقد الأجنبي لدولة ما، فما زال المعدل منخفضا جدا، ومثل هذا التحرك لا يمكن النظر إليه على أنها مقدمة لحرب عملات، وبالتالي فلا أعتقد أن الصين تخوض حربا للعملات، ولو كانت تفعل ذلك بالفعل لشهدنا خفضا جوهريا في قيمة العملة. الأمر لا يعدو أكثر من خطة للدفاع في مواجهة النمو المتراجع، والأوضاع الاقتصادية السيئة التي يبدو أنها خارج سيطرة الحكومة في الوقت الحالي.
– ليس من المتوقع أن تقوم الصين بانتهاج خفض قيمة العملة كسياسة لمواجهة التراجع في صادراتها لأسباب كثيرة، أهمها الخوف من ردة الفعل الانتقامية من دول أخرى، بصفة خاصة الدول المستوردة ذات الأسواق الكبيرة والتي يمكن أن تتأثر موازين مدفوعاتها بانتهاج سياسة خفض قيمة الرينمنبي بشكل منهجي، مثل الولايات المتحدة وأوروبا.
– من ناحية أخرى، الصين تحاول هذه الأيام تشجيع عمليات استخدام الرينمنبي كعملة دولية، سواء كوحدة تبادل أو كعملة احتياط، ولا شك أن هذا الأمر سيمنع الصين من تخفيض قيمة عملتها بصورة منهجية حتى تهيئ الفرصة لاستخدام الرينمنبي كعملة دولية، والتي في مقدمة شروطها السيطرة على تقلبات قيمة العملة.
– أن الصين أيضا تنتظر تطبيق قرار صندوق النقد الدولي بإدراج الرينمنبي ضمن سلة العملات الدولية التي يستخدمها في تحديد قيمة عملته وهي وحدة حقوق السحب الخاصة. فمن المقرر أن يقوم الصندوق في نهاية هذا العام باتخاذ قرار حول ما إذا كان سيدرج الرينمنبي في سلة العملات التي على أساسها يتم تقييم وحدات حقوق السحب الخاصة “عملة الصندوق” أم لا، ولا شك أن الاستمرار في التخفيض لن يكون في مصلحة قرار إدراج الرينمنبي في السلة. ولا شك أن الصين تتطلع إلى هذا اليوم باعتباره خطوة مهمة على طريق تدويل استخدام عملتها.
– أن لجوء الصين إلى التخفيض المستمر للعملة سيؤدي إلى حركات خروج سريع للرساميل من الصين، في وقت هي في حاجة إلى تشجيع هذه التدفقات بصفة خاصة الاستثمار المباشر، بعد أن شهدت الصين زيادة في عمليات خروج رساميل هذا العام.
لكل هذه الأسباب يمكن القول إنه لا يتوقع أن يؤدي قرار البنك المركزي الصيني إلى نشوب حرب للعملات، أكثر منه تحولا في سياسة تحديد معدل الصرف واستخدامها كإحدى أدوات السياسة للحفاظ على عزم النمو في الاقتصاد الصيني.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟