“كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن، كثيرون حول المساجد، قليلون حول الله”.
حلت علينا الذكرى الخامسة والعشرون للغزو، ونحن قد تنطبق علينا العبارة أعلاه، فنحن نتلمس طريقاً باهتاً، بل تاهت منا البوصلة حتى كادت تتلاشى، وصرنا أكثر تخلفاً، وأشد فرقة، ولم نحس حتى بقيمة من قدموا حياتهم فداءً للوطن.
وحيث إن الموضوع متشعب، و”الشق عود” صار لابد علينا أن نتحدث عن ملح الأرض، وهم أولئك البشر الذين أعطوا من غير حساب، ولم يكن يعنيهم أن يحصلوا على شيء بالمقابل.
أمس الأول رحل عنا سعود محمد الجارالله، واحد من أولئك الناس، ناظر مدرسة متقاعد، وقائد كشافة وجوالة سابق، لا ينغمس في الطائفية البغيضة ولا الفئوية، أعرفه معرفة لصيقة، فهو الأخ والصديق والنسيب، ولن يذكره راصد لحركة الشعب أثناء الغزو.
عندما جاءنا الغزو كان أبو عبدالعزيز مشرفاً على ٥٠ شاباً من منتسبي الأندية الصيفية في زيارة للعمرة. وما إن وصلوا إلى الديار المقدسة حتى صار الغزو، فكان همه أن يوصل الشباب إلى أهاليهم، وبالتالي توفر له مركز شباب بجدة كنقطة اتصال، وبدأ بنشر الإعلانات، وتمكن من إيصال كل شاب إلى أهله، سواء داخل المملكة أو حجز التذاكر وترتيب السفر لمن هم في الخارج. وما إن أوصل الأمانة إلى أهلها قرر العودة للكويت المحتلة حينذاك عبر رحلة خطرة، وتم اعتقاله فيها هو وابنه محمد مدة يومين، ثم الإفراج عنه ومجموعة أخرى من الكويتيين العائدين لوطنهم.
وحين عاد إلى بيته وأسرته الصغيرة تحول المنزل والمكان كعادته إلى نقطة جذب وطاقة إيجابية، رافعة إضافية للروح المعنوية للصامدين وهكذا كان الرجل. فخذ مثلاً كيف قام بجلب “تنكر” ماء وسقاية الزرع في شوارع منطقة مشرف، وغير ذلك من الأنشطة. الحديث عن أبو عبدالعزيز يطول، فهو ليس إلا نموذجاً للإنسان الكويتي الوطني البسيط دون مبالغات، لا يتعامل بالطائفية ولا الفئوية ولا الفساد دون رتوش. نموذج سعود الجارالله هو الذي يجعلنا نفتخر بإنسان هذه الأرض، وأمثاله كثر، فلسان حالهم يقول قمنا بما يجب أن نقوم به تجاه وطننا والحمد لله. أمثال بوعبدالعزيز هم الذين يجعلون هذا الوطن أكثر أمناً وأكثر وداً وأكثر رحمة.
في الأشهر الثلاثة الأخيرة اعتلت صحة حبيبنا أبو عبدالعزيز، وكأنها مؤشر لاعتلال صحة الوطن، لكنها هذه المرة كانت شديدة، ضعف الأوكسجين، وضيق التنفس، ظواهر عامة من أمراض المجتمع كما يبدو.
أمس الأول رحل عنا أبو عبدالعزيز دون استغراب، فقد دق جرس الإنذار منذ فترة، لكن يبدو أنه ما من أحد يسمع.
رحمك الله يا سعود وألهمنا الصبر والسلوان، ففراقك لن يكون سهلاً.