((لقراءة الجزء الاول اضغط هنا))
محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في أي لحظة من لحظات حياته مماثلاً لغيره من بني البشر، ففي تأملاته العميقة، بحثاً عن الحق، نزعة فريدة لشخصية مختلفة، وفي عزلته وتعبده في صومعته الخاصة في غار ثور قبل نزول الرسالة عليه، ما يكشف عن صفاء فطرة أصحاب البصيرة والعقول الراجحة، الذين هو على رأسهم صلى الله عليه وسلم، كما في حكمته الحاذقة بعلاقته بقومه ورجالات عصره ما حملهم إلى الثقة به والتقرب لنبل نزاهته وجلالة أخلاقه، وقبولهم له حكماً بينهم، لا يراجعونه في رأي، ولا يحيدون عما يقضي به أو يقول. فقد كانت تتكون فيه شخصية ربانية تتهيأ للقيادة وليست فقط للرسالة والنبوة، فقد انعكست حالة الانفتاح التي يعيشها أهل مكة وبنو قومه، والمتمثلة باستقبالهم للعديد من القبائل والشعوب في مواسم الحج للكعبة، وتقديم الخدمات لهم ورعاية مصالحهم، وأخذ ذلك أبعاداً إضافية في تجارة قومه مع شعوب وقبائل عديدة، في ما اشتهر في التعبير القرآني البليغ برحلتي الشتاء والصيف، في إكساب شخصه أبعاد التعايش المنفتح على الآخرين، والقادر على استيعابهم، والنجاح في القضاء على اختلافاتهم وصهرهم في نسيج واحد يعضد بعضه بعضاً.
بدايات دولة المدينة المدنية
بمنهجية فريدة لم تعرف الإنسانية بحضاراتها ودياناتها وتاريخها لها نموذجاً ولا مثيلاً، أقام محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن مناف دولة مدنية كاملة الأسس، سليمة في البنيان، متينة الفكر، وهي دولته في المدينة المنورة في السنة الأولى للهجرة، وقد أرسى بإقامتها جميع ركائز وعناصر الدولة المدنية، التي يتسابق الناس للفخر باتجاههم إليها، وإقامتها في عصرنا الحاضر ومنذ بدايات القرن العشرين.
فقد بادر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى إقامة الدولة بمفهومها المعاصر بصورة مبرمجة قبل هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فقد حدد الأرض التي ستقام عليها الدولة الحديثة في المدينة المنورة، وتجسّد ذلك ليلة لقائه بالاثني عشر نقيباً من أهل المدينة، وتحديداً من القبيلتين الكبيرتين فيها، بعد أن أسلم معه رئيسيهما سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وقد اغتنم مناسبة مبايعة الاثني عشر نقيباً على الإسلام والنصرة واستقبالهم له ولأصحابه على أرضهم، أن أعلنها لتكون أرض الدولة الجديدة. أما ثاني عناصر الدولة، فكان الشعب ومكوناته، إذ إنه صلى الله عليه وسلم جعل بدايته هي الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، حيث أفصح إليهم أنهم عضد بداية الدولة الجديدة، وألحق بهم مباشرة المهاجرين ممن أراد الالتحاق بدولة المدينة، وتتابعت تكويناتهم على مراحل زمانية متلاحقة أفراداً وعوائل ومجاميع وجماعات، حتى اتضحت معالم مكونين رئيسيين من الشعب، ولم يكن ذلك كله أو نهايته، فقد ألحق بهما بعد ذلك جميع مكونات المجتمع المدني في مرحلة لاحقة وهم يهود بني قريظة ويهود بني النضير ويهود بني قينقاع، كما ضم إليها من هم متاخمون لأرضها وعلى حدودها وهم يهود خيبر، كما أدخل ضمن مكوناتها مشركين وهم قبائل هوازن، ولم يستثن أحداً من الدخول في مكونات شعبها (فصار فيها المسلم الأنصاري والمسلم المهاجري واليهود بتعدد طوائفهم والمشركون ممثلين بقبائل هوازن)، وكان ذلك بوثيقة دستورية مدونة هي صحيفة المدينة (أي دستور الدولة الجديدة). وقد اكتمل العنصر الثالث لهذه الدولة وهو السلطة أو الحاكم، بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون هو رأس الدولة وحاكمها، وعلى الرغم من الخصوصية المتمثلة في شخص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في قيام بأعمال لا يختص بها إلا الأنبياء كونه نبياً مرسلاً من الله عز وجل، وطائفة من الأعمال الأخرى كونه حاكماً ورئيساً للدولة الناشئة، فتعددت الأعمال بين التداخل والانفصال، إلا أنه يمكن تصنيف كماً كبيراً منها كونه يدخل بفئة منها دون الأخرى.
وقد تعددت مظاهر وأوجه الدولة المدنية، أيضاً، في العديد من المبادئ والركائز، منها وجود وثيقة دستورية مكتوبة، إرساء مبدأ المساواة والتكافؤ بين أفراد الدولة على اختلاف أصولهم فارسياً أم عربياً، وعلى اختلاف ألوانهم أسود أم أبيض، وعلى اختلاف أعراقهم أشرافاً أم من عامة الناس، وعلى اختلاف جنسهم رجالاً ونساء، ومبدأ المواطنة، ومبدأ فصل السلطات، ومبدأ المشاركة الشعبية في تولي مسؤوليات إدارة الدولة وغيرها الكثير.
وللحديث بقية.
اقرأ أيضاً:
دولة المدينة المدنية (4): «صحيفة المدينة» أول وثيقة دستورية
One thought on “دولة المدينة المدنية (2)”