في خضم أحداث يومية مؤلمة متلاحقة تسيء الى الإسلام والمسلمين، ومع تعاظم حالات الفتنة المرتبطة بفهم وقصور لدى البعض بشأن الدين والدولة في الإسلام ومحاولة فرض الانفصام بينهما، أو عزل الدولة بغلاف ديني يقصيها عن الواقع لاستباحة دماء النفس الإنسانية واستباحة وهدم وإلغاء ما بنته الحضارات والأديان الأخرى بفكر متحمس منحرف، وفي خضم تكريس اجتهادات وتفسيرات فكرية لما هو الإسلام وما هي دولته اختلطت فيها مشاعر الاضطهاد والظلم واليأس وقلة الحيلة وضحالة في العلم الشرعي أو تسخير منحرف مقصود للدين بانتقاء مفاهيم محددة ووضعها خارج سياقها من أنصاف العلماء. ومع تزايد التحريض بحملات تسعى لهدم ركائز الإسلام والقضاء عليه تحت ستار محاربة التطرّف أو الإرهاب بتخطيط غربي وصنائع يشترك فيها بنو ظهرانينا من المسلمين بمجاميع متطرفة ومنحرفة كما هو بـ «داعش»، وتنادي التيار الليبرالي المستمر بطرح فكرتي الدولة الدينية والدولة المدنية على أنهما حقيقتان لا تلتقيان بدولة واحدة، أجدني ممسكا بقلمي ومجتهدا لبيان أن دولة المدنية أرسيت بالمدينة، كما كانت تماما دولة دينية وهما قد انصهرتا ببعضهما بعضا بأسس وحقائق لا تنفصم ولم تسم يوما لا بدولة الإسلام ولا دولة الدين، وإنما كانت دولة المدينة المدنية، وهو ما يتطلب مثل هذه الكتابة لبيانها تتابعا رفعا للبس وسوء الفهم والتشويه.
البداية: أساس أصيل ومتين
إن ركائز دولة المدينة المدنية التي أقامها رسول البشرية جمعاء محمد صلى الله عليه وسلم، بنيت على ثلاثة أعمدة محورية، كل واحد منها يكمل الآخر ويمهد لما يليه من عمد، وتتجلى فيها جميعا مفاهيم الدولة المدنية المعاصرة في كل الجوانب، بل اشتملت على ما يفوق ما هو متعارف عليه في شأن الدولة المدنية في العصر الراهن، وهذه الأعمدة هي:
-1 أساس أصيل ومتين انعكست بقواعد صلبة ارتكزت عليها دولة المدينة المدنية، وتمثل ذلك بمجمل المبادئ الفكرية الإسلامية والمنطلقات العملية لدولة قانونية رشيدة إنسانية ومؤسسية والتي وردت في المحكم والفريد من الآيات القرآنية المنزلة من المولى عز وجل، وهو ما سنتناوله بالبيان والشرح تاليا.
-2 الوثيقة الدستورية المعروفة باسم «وثيقة المدينة»، وكذلك الإعلانات والمواثيق والقواعد الدستورية الأخرى التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو تلك التي أمر بأخذها من الأمم والحضارات المعاصرة وقتذاك، أو التي أقر عليها أصحابه، أو هي وردت في الأحاديث النبوية التي تتصل بهذا الموضوع الحيوي.
-3 السياسات والأحكام التي اختطها رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم في شؤون الدولة وإدارتها الداخلية وتعاملاتها وعلاقاتها الخارجية، المقترنة بتطبيقات وحالات واقعية لتكون منطلقات البناء لأي دولة تهتدي بسيرته وتسير على نهجه.
وكل تلك الأعمدة كانت ترسي بناء دولة المدينة المدنية، التي يسجل لها فضل السبق في إقامة دولة تتحقق فيها مقاصد الدين انعكست بوضوح في السلطات وإرساء للضمانات وتحقيق لمقاصد المواطنة والتكافؤ في مزاياها والتزاماتها بين جميع مواطني هذه الدولة (أي المساواة وتكافؤ الفرص) لا فرق بين مسلم من أهل الدولة الأساسيين (الأنصار) ومسلم قادم إليها جديد (المهاجرون)، ولا فرق بين المسلم ولا غير المسلم (اليهود بكل مجاميعهم بنو النضير – بنو قريضة – وبنو القينقاع – ويهود خَيْبَر)، ولا بين المسلم والكافر (قبائل هَوازن)، ولا بين رجل وامرأة، إذا جمعتهم الدولة وسرت بشأنهم وعليهم حقوق وواجبات المواطنة في الدولة الاقليمية (أي باقليم محدد وهو المدينة). كان ذلك إقامة حقيقية لدولة المدينة المدنية.
وللحديث تتمته..
5 thoughts on “دولة المدينة المدنية”