المناظر المقززة التي بثها تنظيم “داعش” لجريمة حرق الطيار الأردني حياً وبمنتهى الحرفية والإخراج السينمائي والمدبلج بالمؤثرات الصوتية تعجز عن الوصف، بل تخجلك من إنسانيتك وقيمتك البشرية، ولكن تضعك أمام حيرة في إلقاء مسؤولية مثل هذه الأفعال الشيطانية، فهل تحمّلها على رقاب تلك العصابات من المرتزقة، أم تلك الألسن المسمومة من أدعياء الدين والمشايخ التي نفخت عبر القنوات العربية في عقول الناس للترويج لهؤلاء المجرمين، أم تلك العواصم والحكومات التي قتّرت على شعوبها وسلبت أموالهم وأرزاقهم لتقدمها إلى التكفيريين وتمدهم بالعتاد والسلاح والإعلام والغطاء السياسي، أم تحمّل المسؤولية للحكومات الغربية والدولة الصهيونية التي أطلقت على هؤلاء المجرمين صفات المجاهدين والميليشيات الإسلامية، وأسست جيوشهم عبر المال والتدريب الميداني ومعالجة مصابيهم في المعارك؟
عالم السياسة فيه العجائب والغرائب، والدين أصبح لعقاً على ألسن السياسيين وطلاب الجاه والسلطة، يحوطونه ما درّت معايشهم، والطائفية باتت سلاح من لا سلاح له للقتل والفتك، وباستغلال الطائفية البغيضة لمعت الجماعات الإرهابية، وباسم الدفاع عن أهل السنّة والجماعة زود “داعش” وأخواته بالمال والسلاح والحواضن والمأوى حتى العيال والأعراض.
وعندما تصدت المقاومة اللبنانية لهؤلاء المجرمين في سورية وعلى حدود لبنان قامت الدنيا ولم تقعد، واعتبر ذلك تدخلاً سافراً في الشأن السوري، وعندما تصدى المرجع الديني آية الله السيستاني لفتوى مواجهة “داعش” في العراق بدأ البعض يذرف دموع الكذب على الحرب المذهبية، ووصل الحقد الأعمى إلى حد غض الطرف عن قتل وتشريد واغتصاب أهل السنّة والمسيحيين في سورية والعراق ما دام الهدف هو الوصول إلى الشيعة، وكان من العار والمنكر أن يصطف الشباب السني إلى جانب الشباب الشيعي لمواجهة هذه العصابات المارقة، حتى تمدد “داعش” واخترق لبنان ومصر وليبيا وتونس ووصل إلى أطراف الخليج والجزيرة العربية.
عندما بلغ السيل الزبى، وحين انقلب السحر على الساحر، ولما تحولّت سكاكين الدواعش إلى نحور عشائر العراق السنية وجنود مصر وأهالي ليبيا وسكان شمال لبنان، وعندما انقلب الإعلام العربي الرسمي ليعلن أن هذه الجماعات لا تمتُّ إلى الدين بصلة وأن الإسلام براء من جرائمهم الدنيئة، وعندما أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا محاربة “داعش” بجيش قوامه 80 دولة وميزانية مفتوحة بدايتها 500 مليار دولار، وبعد كل هذه التطورات والاستعدادات، لا تزال العقلية الطائفية مهيمنة في مواجهة هذا الإرهاب الأممي، وهذه العقدة هي أحد أسباب العجز المستمر لتصفية “داعش” ونجاحه في جعل جبهات المواجهة مفككة ومتباعدة.
أثناء الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في حالة عداء شرس سياسياً وفكرياً واستراتيجياً، ولكنهما اتفقا وتوحدا لمواجهة هتلر وجيشه النازي، ولولا هذا الاتفاق لكان هتلر يسرح ويمرح في العالم إلى الآن، اليوم يفترض أن يكون “داعش” هو العدو الأول لأميركا وروسيا، ولإيران والسعودية، وللعراق وليبيا، وللبنان ومصر، لكن المصالح السياسية بين الكبار وعقدة الطائفية بين الصغار هي التي تجعل منظر الطيار معاذ كساسبة وهو يحترق سمة عالمنا العربي الذليل!