في مقال سابق بعنوان مفاجأة ميزانية 1436 /1437هـ، قمت بتحليل الاتجاهات العامة لمشروع الميزانية العامة في المملكة عن السنة المالية الجديدة، بصفة خاصة تم التأكيد على مخاطر الوضع الجديد للمالية العامة للمملكة، إذا ما استمرت أسعار النفط كما هي عليه اليوم، والتأكيد على حتمية الإصلاح المالي.
هذا الأسبوع كشف أنس الصالح وزير المالية في الكويت عن ملامح مشروع ميزانية السنة المالية 2015 / 2016، وقد حملت الميزانية الجديدة أيضا بعض المؤشرات التي تظهر مدى خطورة الاستمرار في اضطلاع الدولة بالدور الذي تؤديه في الوقت الحالي، نظرا للتكلفة المالية الباهظة المترتبة على قيام الدولة بدور اللاعب الأساسي في الاقتصاد المحلي. وفيما يلي بعض الملاحظات على مشروع الميزانية:
– في جانب الإنفاق، انخفض الإنفاق الحكومي من 23.2 مليار في مشروع ميزانية العام الحالي إلى 19 مليار دينار في مشروع الميزانية القادم، محققا تراجعا بنحو 22 في المائة، أهم الجوانب الإيجابية في هذا التراجع أنه انصب أساسا على الإنفاق الجاري مع التأكيد على استمرار الدولة في تمويل الخدمات الأساسية للمواطنين دون المساس بها، كذلك أعلنت الحكومة عن عزمها عدم تخفيض إنفاقها الرأسمالي وأنها ملتزمة بتمويل مشروعات خطة التنمية، وأن التراجع الحالي في الإيرادات لن يؤثر في خطط الكويت لترقية البنى التحتية، وهو اتجاه مهم جدا، ذلك أن التجربة الماضية لتراجع أسعار النفط أثبتت أن الضحية الأولى دائما ما يكون الإنفاق الاستثماري، حيث يصبح تأجيل تنفيذ المشروعات هو الخيار الأول في التعامل مع تداعيات تراجع أسعار النفط.
– في جانب الإيرادات تراجعت إيرادات الحكومة المتوقعة في الميزانية إلى نحو 12 مليار دينار، وبالمقارنة مع بيانات الإيرادات في آخر حساب ختامي للإدارة المالية للدولة، التي بلغت 31.8 مليار في 2013 /2014، تكون الإيرادات قد تراجعت بنسبة 62 في المائة تقريبا، وهو بجميع المقاييس تراجع حاد في غضون هذه الفترة الزمنية القصيرة، وهو مثال حي على مدى خطورة الركون إلى أوضاع السوق النفطي العالمي في الاعتماد على الإيرادات.
– لأول مرة في تاريخها الحديث تتبنى الكويت سعرا للنفط في تقدير الإيرادات في الميزانية يزيد على السعر الفعلي السائد في السوق، ففي السابق كانت وزارة المالية تنتقد على أساس أنها تتبنى أسعارا متحفظة للغاية للنفط تقل بشكل كبير عن الأسعار الفعلية، ولذلك غالبا ما كانت نتائج الحساب الختامي للإدارة المالية للدولة تختلف بشكل كبير عما هو متوقع في مشروع الميزانية، فغالبا ما يتحول العجز إلى فائض، أو الفائض المقدر إلى فائض أكبر. هذا العام، لو استمرت الأسعار على ما هي عليه اليوم، سينعكس الوضع، حيث من المتوقع أن تحقق الميزانية عجزا أكبر مما هو متوقع في مشروع الميزانية، بافتراض ثبات المؤثرات الأخرى على الإيرادات والإنفاق.
– عاد العجز مرة أخرى إلى الميزانية الكويتية، فقد كانت الكويت قد ودعت عجز الميزانية منذ السنة المالية 2000 /2001، فوفقا لبيانات آخر حساب ختامي حققت الكويت فوائض تساوي 12.9 مليار دينار، أي نحو 26 في المائة من الناتج المحلي، وهي من أعلى نسب الفوائض المحققة في العالم، غير أنه وفقا لتقديرات مشروع ميزانية السنة المالية القادمة من المتوقع أن يبلغ العجز 8.2 مليار دينار، أي 28.3 مليار دولار أمريكي. ووفقا لآخر مراجعة قام بها صندوق النقد الدولي منذ أيام لاتجاهات النمو في العالم، يتوقع الصندوق أن يصل الناتج الاسمي للكويت في السنة المالية 2015 /2016 إلى نحو 137 مليار دينار، أي أن هذا العجز المتوقع يمثل نحو 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة للغاية، تتجاوز كل الخطوط الآمنة للعجز كنسبة من الناتج المحلي، التي من المفترض ألا تزيد على 3 في المائة، وحسب البيانات المتاحة من البنك الدولي، لا توجد دولة في العالم تحقق هذه النسبة المرتفعة جدا للعجز إلى الناتج، إذا ما استثنينا حالة إيرلندا في 2010، أي أن تراجع سعر النفط قد حول الكويت من أكبر دولة تحقق فوائض في العالم، إلى أكبر دولة تحقق عجزا في العالم. وتنبغي الإشارة إلى أن العجز المحقق مرشح للتزايد على هذه المستويات، وذلك إذا ما استمرت الأوضاع في سوق النفط على ما هي عليه حاليا.
– مما يعزز من قدرة الكويت على التعامل مع هذه التداعيات الخطيرة، هو تراكم الاحتياطيات المالية التي حققتها في الماضي، التي بلغت، وفقا لتقديرات معهد الصناديق السيادية الدولي 548 مليار دولار، وقد تبدو هذه الاحتياطيات ضخمة في الوقت الحالي، غير أن هذه المستويات المرتفعة جدا من العجز، إذا ما استمرت، كفيلة بالقضاء على هذه الاحتياطيات في غضون فترة قصيرة جدا من الزمن.
– لم يتضح حتى اليوم كيف ستمول الكويت هذا العجز المالي، وبمعنى آخر، هل ستلجأ إلى السحب من احتياطياتها، أم تلجأ إلى الاقتراض لتمويل العجز؟ الواقع أن الكويت بشكل عام لا تفضل الاقتراض لتمويل العجز، أغلب الظن أنها ربما تلجأ لاستخدام عوائد استثماراتها الخارجية، التي لا تدرج في الميزانية، في تغطية هذا العجز وعدم اللجوء للاقتراض وتكوين دين عام.
– من التطورات الإيجابية في مشروع الميزانية تراجع اعتمادات الدعم، التي تعد انعكاسا لتأثيرين متوازيين، الأول هو قيام الحكومة بإلغاء دعم الديزل وتخفيض مخصصات البدل النقدي للعلاج في الخارج، والثاني هو تراجع سعر النفط ذاته، حيث يلعب سعر النفط دورا مهما في تحديد مخصصات الدعم الموجه لتوليد الكهرباء وتنقية المياه الذي يعتمد أساسا على النفط، ودعم المشتقات النفطية. وفقا لمشروع الميزانية تم اعتماد 3.8 مليار دينار للدعم، مقارنة بنحو 5.7 مليار في مشروع ميزانية العام الماضي، مشكلة هذه المخصصات أنها من الممكن أن ترتفع في أي وقت إذا ما تعافت أسعار النفط في السوق العالمي للنفط الخام.
– نظرا لتراجع الإيرادات، اضطرت الحكومة للعودة إلى النظام الأصلي لتحديد مخصصات صندوق الأجيال القادمة، فوفقا للمرسوم بقانون رقم 120 لسنة 2013 تم رفع مخصص صندوق الأجيال القادمة من 10 في المائة فقط من الإيرادات إلى 25 في المائة، وقد قامت الدولة بالفعل بتحويل 25 في المائة من إيراداتها النفطية وغير النفطية في السنة المالية 2013 /2014، كمخصص لصندوق الأجيال المقبلة. غير أنه نظرا لقصور الإيرادات بشكل واضح هذا العام عن النفقات، فقد قررت الحكومة تخصيص 10 في المائة فقط لصالح الأجيال المقبلة وفقا للقانون 106 لسنة 1976، وهو تطور أراه مهما جدا، حيث أصبح لدى صانع السياسة الاقتصادية اليوم أحد الأدوات التي يمكن أن تستخدم لأغراض تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وهو مخصص الأجيال المقبلة، ففي أوقات انحسار أسعار النفط وانخفاض مستويات النشاط الاقتصادي، يمكن للكويت أن تخفض من مخصص احتياطي الأجيال المقبلة لتزيد من إنفاقها، ويمكن أن ترفعه في أوقات انتعاش أسعار النفط لتخفض من إنفاقها الكلي.
– سعر التعادل الذي يحقق التوازن بين الإيرادات والنفقات الحكومية في الميزانية بلغ 77 دولارا للبرميل، وهو ما يعكس تزايد الحاجة إلى حد أدنى من سعر النفط لضمان عدم الدخول في دائرة العجز المالي، بالطبع في ظل المعطيات الحالية للسوق العالمي للنفط الخام فإن هذا السعر يعد بعيد المنال، على الأقل في الوقت الحالي.
وأخيرا ما الدروس التي يقدمها المشروع الحالي للميزانية الكويتية؟ واقع الأمر أن الدرس الأساسي الذي يجب أن تستوعبه الكويت من مشروع ميزانية السنة المالية المقبلة هو أن الإصلاح المالي بجوانبه المختلفة لم يعد ترفا، وإنما أصبح ضرورة حتمية لضمان استدامة الأوضاع المالية للدولة على نحو مريح، وأن الابتعاد عن النفط كمصدر رئيس للدخل أصبح ضرورة، وأن الحكومة لا بد أن تبحث عن مصادر جديدة للإيراد أكثر استقرارا. الدرس الثاني هو أن دور الدولة في الاقتصاد الكويتي قد بلغ مستويات لا يمكن الدفاع عنها في المستقبل، وأن على الدولة أن تعيد رسم دورها في الاقتصاد على النحو الذي تبتعد فيه عن دور المنتج والمقدم الرئيس للسلع والخدمات العامة، الدرس الثالث أن الأوان قد آن لكي يتحول القطاع الخاص إلى القطاع الفاعل في الاقتصاد وليس القطاع العام، وأن تحويل جيوش العاملين في الحكومة من المواطنين نحو القطاع الخاص لم يعد ترفا.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟