تباينت كثير من ردود الفعل هنا بالكويت والخليج على مظاهرة باريس، أمس الأول، بين نوع من الانبهار للحشد المليوني السريع لهمة الشعب الفرنسي وتحفزه لقضية الحرية، أو الشماتة على جريمة “شارلي إيبدو” وتذكير الفرنسيين والغربيين بأنه لولا السخرية الكاريكاتورية من الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ولولا العدوان المتواصل على الأمة العربية الإسلامية، لما حدثت الجريمة، وكأن الثقافة العربية ثقافة سماحة ملائكية! ولكن… ولولا… ولولا… و”لولات” متواصلة دائماً تجد في الغرب “المتآمر” المشجب الجاهز لتعلّق عليه وزر المأساة العربية، والسبب الأول للكرب العربي الإسلامي.
وبهذا الفكر الضحل والإجابات السهلة لمأزقنا التاريخي، نريح أنفسنا من لوم واقع التخلف، وتجذر الإرهاب، ورفض قيم التسامح الإنساني، وكالعادة يصبح التاريخ الاستعماري، وسياسات الدول الغربية وأميركا وعميلتها إسرائيل وراء كل الشرور التي نعانيها اليوم.
وحين تصدر أحكامنا بالإدانة المطلقة لهذا الغرب، فنحن نبرئ أنظمتنا بغطرستها وأبويتها الفاسدة، ونبرئ أنفسنا بالتبعية حين أنتجنا مثل هذه الأنظمة أو سكتنا عنها حين استلبت السلطة.
بالتأكيد أن للغرب وتدخلاته وسياساته في المنطقة العربية وزرع إسرائيل الدور الكبير في مصائب دولنا اليوم، لكن هذا لا يعفينا من مراجعة فكرنا ومواقفنا من قضية الديمقراطية والحريات، وقبلها مسألة العدالة الاجتماعية، فكل ما تفخر به الأمم الغربية حققته بعد صراع طويل، إلا أن أغلبية دولنا، التي رسم الغرب حدودها السياسية، مازالت بعيدة عن تلك القيم الغربية.
إن رفضنا لسياسات الغرب لا يعني أن نرفض أسس التنوير والحداثة وحكم القانون التي قامت عليها الأمم الغربية، بعد صراع مرير وطويل نقلها من عصور الظلام وهيمنة الكنيسة على السياسة وشرعية الحكم إلى عصر العلوم، ثم نشأة الدولة الأمة بالشرعية الدستورية.
وكانت أسماء مثل اسبينوزا وديكارت وهوبس ولوك أشعلت شموع الفكر المتنور في البداية، ثم جاء من بعدهم أشخاص مثل فولتير وروسو ومونتسكيو من أبناء الأمة الفرنسية، ليقيم تلامذتهم ثوار 1789 ثورتهم بشعارها الكبير “حرية، إخاء، مساواة”، وحين وقف المتظاهرون أمس الأول تحت تمثال لهذا الشعار الذي غيّر وجه الحضارة الإنسانية، لم يكن هذا لمجرد التضامن مع الدولة ورفض الإرهاب، إنما لتذكّر العالم، أن حرية التعبير كأحد تجليات حرية الضمير هي أساس الديمقراطية.
وزير الخارجية الفرنسي، لخص المسألة لـ”كريستيان أمانا بور” مراسلة “سي إن إن”، في المظاهرة بأنه “لا ديمقراطية من دون حرية، ولا حرية من دون حرية الصحافة”، فهل يفهم الجماعة هنا هذا الكلام، بعد أن زج بعدد من النواب السابقين والكتّاب والمغردين بالسجون أو سحبت جناسيهم، مع أنهم لم يرسموا رسوماً كاريكاتورية، ولا أحد من شعبنا يخرج في مظاهرة ويقول من أجلهم “جو سوي شارلي”، أو أنا صالح الملا، أو أنا سعد بن طفلة، أو أنا واحد من الأوادم الذين لم يقولوا غير كلمة “لا” للسلطة، فلدينا أفراد القوات الخاصة، ولله الحمد… وكم افتقدناهم في مشاهد مظاهرة باريس أمس الأول.