المسألة تخيلات. الحياة كلها تخيلات.. الرجل النحيف الذي يظهر بشنبٍ كثيف يكاد يخل بتوازنه لفرط ثقله، وتصل أطراف شنبه إلى أسفل أذنيه، ليس مجنوناً في نظر نفسه، ولا يرى شكله كما يراه الآخرون، بل العكس، هو يشفق علينا نحن الذين «نعيش» بأشناب خفيفة قصيرة! هو يتخيل نفسه مكتمل الفحولة بمنظره هذا، والآخرين ناقصي فحولة.
ومثله الشاب الذي ينسدل شعره الكثيف على كتفيه، ويخرج أطرافه من تحت الغترة، لتتدلى على صدره، هو يتخيل نفسه في قمة الوسامة والجمال، والفحولة أحياناً، ويشفق على قصيري الشعر، وينظر إليهم من الأعلى. حماه الله.
الحياة كلها تخيلات. وأتذكر لوثة الغرور التي أصابتني في مرحلة الصبا، عندما اشتريت حذاءً أصفر مصاباً بتشوه أو عيب مصنعي، إذ تبدو إحدى فردتيه مشطوفة من الأسفل، والأخرى سليمة، وكنت أتخيل أنني محسود عليه، وكنت أشفق على أقراني الذين لا يمتلكون مثل هذه «الشطفة»، وكنت على استعداد لإقراضهم إياه لتجربته والاستمتاع به فترة محدودة، لكن أحداً منهم لم يطلب استعارته مني، ويا للعجب! حتى تلك العجوز التي مرت إلى جانبي، وتبسمتُ لها بتواضع، وأريتها الشطفة، حذرتني: «ابتعد عني قبل أن يتقطع الحذاء على رأسك». لم تنبهر بالشطفة، سامحها الله، يبدو أنها لم تكن تمتلك ذائقة رفيعة.. كما كنت أتخيل.
بعض الدول العربية أيضاً، بل وجامعة الدول العربية، بجلالة صمتها، تتخيل أننا نصدق بياناتها، وإعلامها الرسمي، وسهر قياداتها لمصلحة الشعوب، والمؤامرة الكونية ضد العرب، و «الإرهاب»، وبقية الخزعبلات التي تُفقد السنجاب اتزانه.
حتى العشاق، لولا الخيال والتخيل ما عشقوا، ولا حتى كرهوا. الخيال الذي يرتسم في ذهن الصبية عن لحظات اللقاء المرتقبة مع عاشقها، لا يمكن أن تتخيله مع غيره، لذلك تعشقه هو وتكره آخرين، رغم عدم استناد عشقها وكرهها على المنطق، في الغالب الأعم.
الميت فقط هو من لا يمتلك الخيال… عيشوا خيالاتكم، أو عيشوا حياتكم.