هو والدي عايض بن حسين بن عايض الوشيحي رحمه الله. رجل تسلل خلسة من فصيلة السباع إلى فصيلة البشر. كان هو السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومصدر السلطات جميعاً. وكنت وإخوتي وأقرباؤنا وجيراننا ومعارفنا نمثل الشعب.
وسيستأنس برأيك: “بما أن المرحلة المتوسطة في عطلة مدرسية، ما رأيك لو نذهب إلى مكة اليوم؟ أو غداً إن أردت؟”، فتجيبه بعد أن تشبك أصابع كفيك كما يفعل رؤساء البنوك: “الحقيقة… غداً أفضل طال عمرك”، فتحل الطامة، ويزأر في وجهك: “شيطانك هو الذي أجابني نيابة عنك يا ضعيف الدين”! ثم يلحقها بزأرة أخرى بعد أن يرتكز حاجباه كرمحين: “قم شغل السيارة يا رخمة”، فتتحول في لحظة من رئيس بنك يشبك أصابع كفيه، إلى لص مواسير ضبط متلبساً.
ولأنه قوي البنية، صبور كالجمل، ولأنك لن تراه متألماً ولا متأوهاً، فقد توفي رحمه الله وهو يظن أن الرجال مثله لا يتألمون. النساء فقط يتألمن. وستحل عليك الكوارث إن أنت قلت “آه” لشدة الألم، وسيطرح عليك سؤالاً بسيطاً: “أنت مرة؟” أي هل أنت امرأة؟، فتضطر أن تقفز فرحاً أمامه وتعرب عن سعادتك كلما تألمت، تجنباً لسؤاله المدمر.
متديناً كان، بشراسة البدوي ونقائه. وكان يشرح لنا الدين وأهمية الصلاة بالتي هي أحسن، و”التي هي أحسن” عبارة عن طابوقة تنطلق إلى صدرك فتهشم ضلعين، وتشعر بعدها بأن قفصك الصدري يسرّب الهواء، وقد تأتيك قطعة حديد على معدتك الكريمة، فترديك صريعاً. لكنك ستنهض بسرعة، وبالطبع لن تتألم لأنك لست امرأة، بل ستنفرج شفتاك عن ابتسامة سعادة، وحبذا لو رحت تجري في حوش المنزل وترفع يديك كأنك سجلت هدفاً في مرمى برشلونة: “الحمد لله معدتي انقطعت… الحمد لله الكبد راح في خبر كان، تم هرسه بنجاح… متعة. يا ما أنت كريم يا رب”.
سخر الله له الطابوق والعصي وقطع الحديد عندما يحتاج إليها، فما تكاد تخطئ حتى يجد شيئاً من هذه الأسلحة الفتاكة بالقرب من قبضة يده. والحمد لله أن الصباحية تخلو من القنابل اليدوية والألغام.
المفارقة أنه بقدر قسوته على أبنائه الذكور، بل وأبناء المعارف والأقارب، وبقدر تطرفه في خشونته معهم، كان شديد الرحمة بالنساء والأطفال. لم يكن يعرف الحلول الوسط. هي معادلة بسيطة تشكلت في عقله الباطن كما يبدو لي؛ “الرجال خلقوا من فولاذ، والنساء خلقن من حرير”. كان يقيس الأمور على قدرة تحمله هو لا قدرات الآخرين.
الممنوعات لا حصر لها، والسبب دائماً ثابت لا يتغير؛ “لأنك ابن حمولة”. فالضحك، أو “الكركرة” كما يسميها، ممنوعة، في حضور كبار السن. وعيال الحمايل أصلاً لا يكركرون بل يكتفون بالتبسم، وعيال الحمايل لا يستند الواحد منهم على “المركى” في حضور الكبار، ولا يطيل الواحد منهم الحديث مع الكبار، بل يجيب عن أسئلتهم باختصار شديد، ولا يزاحمهم في الحديث. وإذا ضربك ابن جارك فاصمت! ليش؟ لأنك ابن حمولة… فاتورة طويلة عليك تسديد ثمنها لأنك ابن حمولة! توفي رحمه الله قبل أن يعرف أن “المماليك” الذين هم ليسوا عيال حمايل، بل يباعون في السوق، كانوا هم الذين هزموا جيوش التتار، في حين أن العباسيين والأيوبيين وبقية “عيال الحمايل” فروا من أمام التتار يولولون كالنساء. لكن أحداً لن يجرؤ على طرح مثل هذه الأمور في حضرة عايض الوشيحي.
توفي والده وعمره ست سنوات، وسرعان ما توفيت والدته، لينشأ يتيماً. لكنه استطاع ترتيب أوضاعه، وتزوج من ست نساء. وتوفي في حادث انقلاب سيارته التي كان يقودها، وهو في الخامسة والتسعين من عمره.
وأكتب هذه المقالة في ذكرى وفاته التاسعة التي مرت الأسبوع الفائت. ولولا أن شهادتي مجروحة لقلت الكثير عن شهامة ذلك الرجل وفروسيته… رحمه الله.