منذ ثورات ٢٠١٠-٢٠١١ لازال التحول العربي مستمراً بما يثيره من انتفاضات وحركات شعبية وردود فعل أنظمة وانتشار عنف وغضب وفوضى وسفك دماء وصدامات طائفية. المشهد منذ الثورات يحمل مشاهد سلبية وإيجابية، لكنها في جلها جزء من تحول وحرق لمراحل تسبر غور أعماق بلادنا ومجتمعاتنا العربية. لهذا تشهد منطقتنا كل يوم مزيداً من التعقيدات الفاصلة والجامعة بين رغبات الشعوب واحتياجات الدول وواقع الانقسام وتبدو الكثير من الدول والأنظمة أشبه بمن يحاول إطفاء حريق دون النجاح في منع انتقاله إلى مكان آخر أو الحد من إعادة انبثاقه بسبب عدم التعامل مع الأسباب التي أدت اليه. الحالة العربية الآن تتعلم إطفاء النار بالنار، لكنها لم تجرب بعد إطفاء النار بالمشاركة والأنسنة واحترام الحريات وحسن الإدارة والتشارك. لازالت المرحلة مفتوحة على مختلف الاحتمالات.
وينتشر الفراغ العربي أفقياً وعمودياً بين الجيلين العربيين القديم والجديد وبين النخب العسكرية والمدنية وبين أصحاب الحلول الأمنية وأصحاب الحلول السياسية. وبينما من الطبيعي أن يلوم بعضهم الشعوب والبسطاء من الناس، لكن اللوم الحقيقي سيبقى من وجهة نظر التاريخ على من تحملوا مسؤولية المرحلة الراهنة والسابقة في قيادة البلدان العربية. وحدهم سيحمّلهم التاريخ المسؤولية بسلبياتها وإيجابياتها، ووحدهم يتحملون مسؤولية إخراجنا من هذا الوضع ما داموا يسيطرون على صنع القرار عبر تقديم تنازلات وطرح مبادرات والسعي في طريق لم يعتادوا السير في تعرجاته.
لقد تحولت الحالة العربية الراهنة إلى صراع مفتوح بين الأنظمة السياسية ومؤيديها من جهة وبين قوى إسلامية وغير إسلامية وشبابية شعبية معارضة وثورية من جهة أخرى، كما وقع الصراع في الشارع بين قوى تناصر التغير بوسائل سلمية وأخرى بوسائل مسلحة، وقد صعدت إلى المشهد قوى أكثر تطرفاً كحال داعش. كما أن الصراعات بين أجنحة النظم السياسية المدنية والعسكرية والعائلية تؤثر في المشهد وفي مدى انتشاره بأكثر مما هو واضح في الصورة.
لقد فشلت الأدوات السياسية القديمة في تنفيس غضب الحاضر. فالصراع على سبيل المثال خرج عن القواعد التقليدية المتعارف عليها في العراق وسوريا وفي مصر واليمن وليبيا ومجتمعات أخرى في منطقة الخليج. لقد أصبح الخلاف السياسي واضح الأبعاد في الأماكن التي تحوّل فيها للعلنية، إلا أننا لا نعرف كيف سيعبر عن نفسه حينما لا يكون علنياً. في هذه الحالة ستقع المفاجآت وذلك لأن المجتمعات العربية تزخر بالكثير من التحركات، وهو ما لانراه إلا عندما يبرز فجأة على سطح الحدث كما حدث مع داعش في العراق. فرغم سعي الدول لمنع الظاهرة العابرة للدول إلا أن حالة الفراغ الناتجة من ضعف المشاركة السياسية وتآكل الثقافة وركاكة التعليم الرسمي والحريات في الأنظمة العربية جعلت قطاعاً من الشباب يؤمن بأطروحات تبسيطية متطرفة كما حصل مع ظاهرة داعش.
نحن العرب جزء من مجتمات تعلمت وتكاثرت وتنوعت واتصلت وتواصلت ونمت كماً وتمدنت ( سكنت المدن) بينما إداراتها السياسية وبرامجها الرسمية ووسائل أنظمتها لم تواكب حجم التغير. هذا التناقض الأكبر يتحكم بأزمات العالم العربي الراهنة، لهذا فكل محاولات تعبئة الفراغ بأساليب الدولة الأمنية القديمة لن تتجاوز الفعل الموقت، وسيكون حالها كحال من يستدين مالاً فوق طاقته ليشتري بعض الوقت بينما يعيد إنتاج المشكلة بصورة أكثر خطورة في وقت آخر. أساليب الأمن له مبررات في كل مجتمع ودولة، لكن ممارسته بهدف تفادي التعامل مع الإصلاح والتطوير والتدوير والرحمة والتسامح وإعادة أسس الشراكة ستخلق مشكلة أمنية أكبر. هذا يمهد لموجة ثالثة وربما رابعة من موجات الثورة ولموجة وراء الموجة في صراعات الأجنحة الحاكمة والمؤثرة. إن الصراع لتعبئة الفراغات في العالم العربي لن يتوقف في السنوات العشر القادمة.
إن الاكتفاء بلوم أطراف ثالثة لتفسير الثورات أو العنف أو التطرف لن يحل المشكلة. فجانب من التطرف مرتبط باحتكار السياسة وضعف التداول كما أنه مرتبط بالتهميش الاقتصادي لفئات شعبية كبيرة في ظل تحول معظم فائض الربح من القطاع الخاص والحكومي في المجتمعات العربية لطبقة ولفئات صغيرة العدد من السكان، وهذا يجعل الطبقات الوسطى العربية في تراجع وضمور بينما الطبقات الشعبية في تراكم وانتشار. إن انسداد السبل أمام الشباب كالفقر وغياب الفرص وانتشار العنصرية والتميز وانتهاك حقوق ضعفاء الناس من الأسباب التي تخلق حالة غضب وسط قطاعات من المجتمع. فغياب دولة القانون التي تشمل كل الناس وتنحاز للحقيقة وتنصف الفقراء وبسطاء الناس هو جزء من المشكلة.
أن نقول هذا لا يعني أن الثورة والعنف والتطرف أمر مقبول، فللثورات ثمن كبير، وللعنف ثمن أكبر لأنه يحصدنا جميعاً ويدمّر البراءة في بلادنا العربية. لكننا نتحمل المسؤولة تجاه حالة الغضب التي تزداد انتشاراً في شوراعنا وذلك من خلال تخلينا عن أسس النظام العادل وقيم إعادة توزيع الصلاحيات السياسية والحريات والحقوق. فمنذ فجر التاريخ وفي كل ثورة وحركة سياسية هناك فصائل مارست الإرهاب وأخرى مارست السلمية، وفي الكثير من الحالات كانت ممارسات الإرهاب مجرد مقدمة للمشكلة التي ستنفجر في زمن آخر. مثلا الإرهاب الإيراني كان مقدمة للثورة الإيرانية، والإرهاب الروسي الذي رفضه وهاجمه لينين كان مقدمة للثورة الشيوعية والإرهاب الفرنسي نتاج لعنف الثورة الفرنسية. لهذا أسأل رافضي الإصلاح العربي والممتنعين عن تقديم تنازلات حقيقية وموضوعية ومعتدلة وتدريجية للشعوب: ماذا تنتظرون؟ أليس الإرهاب العربي المنتشر مقدمة لشيء ما؟ إن خيارنا الوحيد لإيقاف التطرف هو الإصلاح والانفتاح.
الفراغ العربي لا يقع فقط على جبهة السياسة الداخلية والحريات والإصلاح، بل إنه قائم على جبهة الخارج في العلاقة مع القوى الكبرى والأمم الأوروبية والأميركية والاحتلال الإسرائيلي. فالإشكال الداخلي يلحقه إشكال خارجي، فالدول العربية تواجه إضافة لمشكلاتها الذاتية مع التنمية والحريات والعدالة مشكلة أعمق في العلاقة مع الغرب حيث تتواجه مع مقتضيات التوازن والعزة والاستقلالية العربية. لهذا فالفراغ العربي لا يمكن فصله عن قضية الهوية مما يساهم في زيادة دور الحركات الإسلامية بصفتها نتاجاً طبيعياً لأزمة الهوية العربية.
وتؤكد حرب غزة الأخيرة مدى عمق قضية الهوية في الضمير والوجدان العربي والإسلامي. فالهوية الإسلامية والشرقية والعربية لازالت أساس الهوية في البلدان العـــربية، وهذه الهوية بحكم التعريف والوضع الجغرافي هوية رافضة للوضع الدوني للمسلمين. لهذا فالتضامن مع غزة عربياً وإسلامياً إنعكاس أمين لقضية الهوية وللحس بضرورات العدالة لدى شعوب المنطقة.
لهذا فإن صراع الهوية لم يعد بين تيار ليبرالي وآخر إسلامي، بل أصبح منذ الثورات العربية بين التشدد الإسلامي لحد التطرف وبين الإسلام المرتبط بالهوية الحضارية المتقاطعة مع القوى الحقوقية المتمسكة بالعدالة والحريات وحق المشاركة السياسية. إن صراع الهوية والعدالة لازال مفتوحاً على مصراعيه وسيؤثر في تطور المنطقة على المدى القريب والمتوسط.
فراغات كثيرة، عالمنا يتغير، لكنه لا يسير في طرق مستقيمة، ففي ظل التحول تقع تراجعات وتبرز الأمراض والمشكلات التي لم يكن النظام العربي القديم ليسمح بنقاشها علناً وذلك إنطلاقاً من أننا بخير وكل شيء على مايرام. تخاض المعارك الآن على كل شيء، لكنها ستفرض استنتاجات قد تساهم بتطور المنطقة نحو قيم مختلفة تتعلق بالعدالة والحريات والتوازن بين الشرق والغرب. المآل التاريخي سيبقى شائكاً سنوات طوالاً ولا خيار لدينا لتخفيفه والتعامل معه إلا عبر رعايته وطرح رؤى جوهرها الإنسان وحقوقه ومكانته.