في مقال سابق، ذكرت أن فشل الثقافة العالمية المبنية على القتل والتدمير، التي سادت العالم كله منذ بدء الخليقة، لم يعد مقبولاً ولا معقولاً، فتُصرَف الأموال الطائلة لتدمير البشرية، بدلاً من أن تُوظَّف لإسعادها، وذكرت كذلك أن هذا يفسر سبب ثورة الشباب العالمي على هذا الوضع، وانخراطه في الالتحاق بالبدائل المطروحة على الساحة، فهناك بديل ديني، يمثله «داعش»، وبديل آخر، يمثله الربيع الشبابي العالمي.
الانتصارات المذهلة لـ«داعش» في العراق وسورية أبهرت الشباب العالمي المتعطش إلى التغيير، فهبَّ مشاركاً أو مساعداً لهذا المشروع.
تقرير «نيويورك تايمز»
ففي تقرير نُشِر في جريدة نيويورك تايمز الأميركية، أُعِدّ من قِبل مجموعة من المختصين بتاريخ 28/8/2014، شدد على أهمية الجيش العراقي وضباطه، الذي خاض حرباً طويلة وصعبة أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، وأوضح أن هؤلاء الضباط يشكّلون العمود الفقري لـ»داعش»، وذكر أهمهم واختصاصاتهم المتفرقة وشهادة المسؤول عنهم في الكلية العسكرية، كضباط مميزين. وأشارت الصحيفة إلى تعامل الاحتلال الأميركي معهم، وطردهم بعد حلّ الجيش أو اعتقالهم، وكذلك محاربتهم، كجزء من المجتمع السني بشكل عام، ما كان من أسباب التحاقهم بـ«داعش».
ويذكر التقرير، كذلك، أن من بينهم ضباطاً شيوعيين أثناء حكم صدام، حيث يشكّل هؤلاء الجيل الجديد، ولديهم الخبرة في استعمال السلاح العراقي الموجود، الذي تم تخزينه بشكل لافت للنظر، لاستعماله في أي لحظة. ويُقال إن ذلك كان مخطط حزب البعث في ما لو فوجئ بانقلاب، ليكون جاهزاً للاستعمال من قِبل عناصر الحزب للعودة إلى الحكم.
رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي أنهى الجيش، واعتمد على تشكيلاته الخاصة المحدودة الخبرة في استعمال هذا السلاح، في حين أظهر البغدادي قدرة تنظيمية فائقة في توزيع الصلاحيات على رجاله، وإعطائهم الحرية في القيام بواجباتهم، سواء كانوا عسكراً أم مدنيين.
لقد وجد البغدادي في البيئة السنية، غرب العراق، الأرضية الصالحة للعمل.
تمويل وولاء
التمويل الهائل، الذي حصل عليه «داعش» من البترول، أو البنوك التي نهبها، عزّز قدراته، ولا ننسَ كذلك أن حزب الإخوان المسلمين، الأب الروحي لجميع الأحزاب الدينية، أغدق عليه الكثير من الأموال الفلكية، التي تفنن في جمعها من لجانه الخيرية الكثيرة، ومشاريعه الاقتصادية في معظم دول مجلس التعاون الخليجي، المتحالف معها هذا الحزب، الذي يخدم استراتيجيتها المعادية للمشاركة الشعبية في الحكم، كما أن الكثير من الجماعات الدينية المسلحة في إفريقيا وآسيا أعلنت ولاءها لـ«داعش»، الذي اتبع أسلوب جنكيز خان وهولاكو في إشاعة الخوف والهلع، من خلال تصرفاته والتفنن في القتل والتعذيب والإعدامات الجماعية، ليبث الرعب في الأعداء، ليستسلموا من دون قتال.
مفاجآت
هذه التطورات فاجأت كثيرين، وأفزعت أصحاب المصالح في المنطقة، من الحكام وحاشيتهم المحتكرة للمال والسلطة، وهددت كذلك مصالح الدول الغربية، التي تحمي هؤلاء الحكام الحريصين على مصالح هذه الدول الأجنبية.
هناك أمر مهم يتداوله البعض، لم يُؤكَّد بعد، بأن البغدادي كي يكون خليفة للمسلمين عن جدارة، عليه أن يحكم من الموقع المقدَّس عند المسلمين، أي من الحرمين الشريفين ـ مكة المكرمة والمدينة المنورة ـ ويعتقد البعض بأن ذلك لن يكون مستحيلاً، ووفق ما أوردته جريدة «رأي اليوم» الإلكترونية بتاريخ 2014/8/29، في استطلاع غير رسمي، فإن نسبة كبيرة من الأهالي يؤيدون «داعش»، بسبب الأوضاع المتردية التي يحاول النظام الآن إصلاحها، لكن ببطء شديد، بسبب طبيعة النظام العائلي الديني.
حرب غزة
وفي هذا الإرباك، الذي تعيشه قوى الفساد، فوجئت بانتفاضة غزة، التي أبهرت العالم، واعتبرت بأنها «داعش ثانية» تحمل اسم «حماس» غزة. ولم تقف لتسأل نفسها: لماذا عاد الشعب في غزة إلى تأييدها والتعاون معها، بعد أن كان قد انقلب ضدها، بسبب حكمها الاستبدادي المعادي للأطراف الأخرى؟!
الانتفاضة في غزة شاملة، اشترك فيها الشعب كله لتحريرها من الحصار والاحتلال والإذلال سنين عدة. لقد كانت حرب تحرير كاملة للشعب كله، وهذا سر نجاح «حماس» وتحطيمها للصلف الإسرائيلي.
حرب غزة أظهرت للعالم الوجه القبيح لإسرائيل، الذي كانت تخفيه كدولة ديمقراطية إنسانية وحيدة في المنطقة، وأبرزت همجيتها وعنصريتها البشعة، فخرت طهارتها المزيفة، وهكذا انهزم المشروع الصهيوني، وتأكد للإسرائيليين أنه لا أمان لهم في هذه الدولة التي طالت الصواريخ الفلسطينية كل بلداتها.
الغرب، وبعض حكامنا، مع الأسف الشديد، وقفوا ضد هذه الانتفاضة، فجاء المشروع الإسرائيلي- الأميركي لإنهاء الحرب بتحقيق الأهداف الإسرائيلية من هدم الأنفاق، وتجريد الفلسطينيين من أسلحتهم، وفرض وصاية إسرائيلية على غزة.
بعد فشل هذا المخطط، جاء هؤلاء ليمثلوا دور المنظمة الإنسانية للإغاثة، لضخ الأموال لتعمير غزة، وإلهاء أهلها بتدبير حياتهم العادية المادية، ولم يدركوا أن أهالي غزة تجاوزوا هذه المرحلة منذ زمن بعيد، عندما استطاعوا العيش بكرامة طوال سنوات الحصار الإسرائيلي البشع. لم يفهم هؤلاء بعد أن الكرامة لا تُشترى بالمال.
المستقبل
وختاماً، فإن كل هذه المشاريع المطروحة، الداعشية أو العربية الرسمية، مآلها الفشل، و»داعش» غير قادر على مواجهة عالم أقوى منه بكثير، وسيتحول على الأكثر إلى مجموعات متفرقة تقوم بأعمال تخريبية متعددة، وربما مزعجة، لا أكثر، لأنه ضد مسيرة التاريخ وتطور البشرية.
الربيع العالمي هو المستقبل، طال الزمن أم قصر، وعلى الأنظمة العربية المرعوبة من هذه التطورات أن تدرك أنه ليس أمامها إلا الإسراع في عملية الإصلاح، التي تتيح الفرصة لشعوبها في المشاركة الحقيقية في الحكم، وإنهاء عهد الفساد والمفسدين.