أصبح من المألوف في منعطفات القضية الفلسطينية الأساسية أن يتحول جزء من فلسطين إلى رافعة بالنسبة إلى بقية الأجزاء. الجديد في المعادلة في هذا الصيف الساخن أن غزة أخذت بقية الفلسطينيين والمتضامنين معها من العرب والمسلمين والعالم الأوسع نحو قيم كفاحية جديدة. صراع غزة لتفتيت الحصار المفروض عليها وطريقة خوضها للمعركة الحربية في عام ٢٠١٤ حوّلها بامتياز إلى الحاضن المرحلي الأهم لحركة المقاومة الفلسطينية. غزة المدينة والقطاع وذلك الممر الساحلي الضيق خاضت حرباً متكاملة الأركان وفرضت نفسها بالتالي جزءاً قيادياً في الحركة الوطنية الفلسطينية المقاومة للاحتلال. في هذه الحرب بينت مقاومة حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» عن مقدرة عالية على التخطيط والانضباط، بل تحول بعض رموز المقاومة إلى رموز تاريخيين كما هو الحال مع قائد كتائب عزالدين القسام محمد ضيف ونائبه أبو عبيدة. لقد اكتسبت المقاومة الفلسطينية في معركة غزة زخماً لم نعهد مثله منذ زمن طويل، فهناك تواصل مع تجارب المقاومة التاريخية، وتطور لثقة جديدة بإمكانياتها. لقد غيرت الحرب أشياء كثيرة، يكفي أنها أنعشت ذاكرة أمة وحفزت روح صمود.
لقد قدمت غزة حلاً في المدى المنظور للطريق المسدود الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية بعد أن دمر اليمين الإسرائيلي بقيادة نتانياهو حل الدولتين عبر الاستيطان وتوريط السلطة الفلسطينية في حالة من التفاوض العبثي في ظل تنسيق أمني مع إسرائيل. ومن مظاهر انسداد الطريق الفلسطيني: إغراق رام الله (الجهاز الفلسطيني الرسمي بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني) خاصة منذ قمع الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٥)، بأموال الدعم الأوروبي والعالمي المشروط والهادف لترسيخ التفكك والاعتماد بينما يتعمق الاستيطان. ومع تصفية الكثير من المقاومين من «فتح» و»حماس» و»الجهاد الإسلامي» و»الجبهة الشعبية» وغيرهم في الضفة الغربية المحتلة من الذين نهضوا بالانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) انتهى الأمر بفقدان الضفة الغربية ثقتها بقدرتها على المقاومة.
إن الطريق المسدود الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية منذ شهور فتح شهية اليمين الإسرائيلي لصالح فرضه لحلّه النهائي من أجل تثبيت سيطرة صهيونية على الأرض (مقابل إعطاء حدود دنيا غير مضمونة من الاستقرار في مناطق السلطة الفلسطينية). ولينجح اليمين وجد فرصته الأهم في توجيه ضربة نهائية إلى غزة تفرض على القطاع الاستسلام للشروط الإسرائيلية (فرضية انهيار المقاومة وتسليم السلاح).
وبالفعل لو درسنا الظروف المحيطة بـ «حماس» والمقاومة قبل الحرب لتبين أنها (وفق التقديرات الإسرائيلية) كانت في أضعف حالاتها، فالنظام الجديد في مصر منذ تموز (يوليو) ٢٠١٣ في صراع مع «الإخوان المسلمين»، بل سبق لإعلامه أن حرض بقوة على «حماس» وفرض حصاراً على غزة عبر تدمير الأنفاق وإغلاق معبر رفح الذي يربط بين مصر وغزة. كما أن علاقة «حماس» مع سورية وأيران تأثرت بسبب الثورة السورية وطبيعة المواقف السياسية للنظام السوري ولإيران. كما أن الوضع العربي قبل الهجوم الإسرائيلي كان مؤاتياً لإسرائيل، خصوصاً أن عدداً من الدول العربية أخذ خطاً تصادمياً مع «الإخوان المسلمين» مما انعكس على حركة «حماس» والمقاومة في غزة. فالحاضنة العربية الرسمية الجماعية السابقة كادت تكون غائبة. وعلى رغم ارتباط «حماس» بالوضع الفلسطيني بصفتها فصيلاً مقاوماً مستقلاً، وعلى رغم عدم تدخل «حماس» في الوضع المصري والعربي، إلا أن غياب الحاضنة الرسمية العربية والأهم المصرية لغزة جعل إسرائيل تنطلق من وجود فرصة تاريخية لإنهاء المعركة خلال أيام. وقد عزز التصور الإسرائيلي أن حصار غزة أثر على وضع «حماس» الاقتصادي وقدرتها على إدارة القطاع مالياً واقتصادياً. وقد وجدت إسرائيل أن قيام «حماس» بالاتفاق مع «فتح» على حكومة وحدة وطنية في حزيران (يونيو) ٢٠١٤ تعبير عن ضعفها من جهة، وتعبير في نفس الوقت عن إمكانية استعادة «حماس» لوضعها كفصيل مؤثر في مرحلة مقبلة. لهذا قررت إسرائيل أن جميع العوامل متوافرة لتوجيه ضربة قاضية ونهائية لـ «حماس».
وأوضحت هذا الحرب مدى ترابط الوضع الفلسطيني على رغم صعوبات الجغرافيا. فالمواجهة في غزة هي نفسها استمرار لمحاولات فك حصار الضفة الغربية والقدس حيث الجدار والعزل العنصري والاحتلال والاستيطان، وهي ذاتها حركة فلسطينيي ١٩٤٨ من أجل العدالة وضد العنصرية والتمييز والتهويد، وهذه المطالب مرتبطة بالشتات الفلسطيني بكل تعقيداته وبتاريخ النكبة، فهناك مئات الألوف في المخيمات ينتظرون حلاً، وهناك آخرون بالملايين في بقاع العالم ينتظرون الحق الطبيعي في التواصل مع الأرض التي فرض على أجدادهم الخروج منها في ظل ظروف قسرية.
لهذا فان البعد الأسطوري لحرب غزة يتجلى بقدرة قطاع صغير محاصر، في ظل وضع عربي رسمي غير مؤات، على التغلب على التحديات والعوائق الجبارة وذلك لتأمين النجاح في مواجهة مفصلية مع الجيش الإسرائيلي. لقد أدت ملحمة غزة إلى فتح ثقوب ومعابر واضحة في جدار الاحتلال وسيطرته في جميع أبعاد القضية الفلسطينية: في الضفة الغربية وفي القدس وفي فلسطين ١٩٤٨ وفي الشتات. غزة حررت الإرادة من خلال صمود أهلها وتضحياتهم الكبيرة.
وتواجه إسرائيل مأزقاً من نوع آخر بعد الهدنة: فان أبقت الحصار على غزة فستنفجر المدينة في وجهها مجدداً، وإن رفعت الحصار جزئياً أو كلياً ستكسب «حماس» وتتقدم الصفوف في الساحة الفلسطينية الأوسع. المأزق الإسرائيلي مأزق احتلال أمام مقاومة. لهذا ستعمل إسرائيل جاهدة لمنع نمو قدرات المقاومة في غزة وفي بقية فلسطين بالإضافة إلى محاولة ضرب الالتفاف العالمي حول القضية الفلسطينية.
وهذا بالضرورة سيتطلب سياسة فلسطينية مضادة. بل على الأغلب ستنجح المقاومة في فك جزء كبير من الحصار لكنها لن تحقق كل مطالبها. سيبقى الصراع والمقاومة والاستنزاف. هذا يعني حصول مواجهات قادمة، وهذا يتطلب في نفس الوقت إعادة بناء الإطار القيادي للحركة الفلسطينية وعلى الأخص منظمة التحرير الفلسطينية، مع إشراك ودور واضح لـ «حماس» ولـ «الجهاد الإسلامي». وهذا سوف يعني حتمية امتداد المقاومة بشكل أو بآخر إلى بقية فلسطين المحتلة حيث تتنوع ساحات المواجهة وخاصة وسائلها السلمية والمدنية المؤثرة، كما يتطلب الأمر نقل المواجهة الإعلامية مع إسرائيل وحملات المقاطعة والتضامن إلى العالم كله وذلك لكشف الاحتلال وانتهاكاته. لهذا فان غزة بداية جديدة لمقاومة طويلة الأمد نحو التحرر. هذه بداية مشروع تحرير الأرض في ظل سعي واضح للحقوق والعدالة والحريات والمساواة والإنسان ومواجهة الحصار والجدار والاستيطان والاحتلال والعنصرية والتوسع الإسرائيلي.
وعندما نتمعن في طريقة العنف الإسرائيلي المبالغ به على رغم فارق الحجم والقوة والإقتصاد والعدد نستنتج أن عنف إسرائيل مرتبط بسعيها الى قتل فكرة المقاومة ووسائلها. فعنف إسرائيل مرتبط دائماً بالمستقبل. إسرائيل تعرف أن أكثر من نصف سكان غزة من اللاجئين الفلسطينيين السابقين، وأن مخيمات غزة وسكانها مرتبطون بمفهوم أوسع لفلسطين الأرض والمكان والجغرافيا. إسرائيل تريد عبر القسوة المبالغ بها أن تنسي الفلسطينيين حقوقهم.
إن القتل الإسرائيلي المبرمج ينطلق من رؤية نفسية للإنسان الفاقد للحقوق، فتخيّره بين القبول بواقع الاستلاب وبين الدمار وفقدان المنزل والأبناء والبنات والأحبة تحت الركام، كما تخيّره بين القبول بالحركة الصهيونية على كل الأرض وفي كل مكان مقابل حد أدنى من الحياة بلا حقوق. وتعلم إسرائيل أنها لا يمكن أن تستمر كدولة محتلة واستيطانية واستعمارية على أرض الشعب الفلسطيني إلا إذا كانت لها اليد العليا في الأمن والجيش والحرب وآلة القتل والسيطرة الإعلامية والتمدد والحصار والدعم الدولي والأميركي. لهذا فدولة الاحتلال مهووسة بالسيطرة والاستبداد والعزل والعنصرية.
لقد فتحت حرب غزة نفقاً لضحايا الصهيونية، هذا العبور تحت الأرض وقع على أرض محروقة وفي مساحة صغيرة. في الحالة الجديدة ما بعد المواجهة في غزة، بإمكان الفلسطينيين أن يعتمدوا على ذاتهم وأن يحسنوا تنظيم وإدارة قدراتهم بما يجدد نديتهم التاريخية والإنسانية للحركة الصهيونية، وبإمكانهم أن يبنوا على الزخم الشعبي الكبير الذي دعم قضيتهم عربياً ودولياً. وحتماً بإمكانهم، بسبب صمودهم، السعي لبناء حالة اصطفاف جديدة مؤيدة للمقاومة من قبل الأطراف المؤثرة في النظام العربي، فبالإمكان بناء قاعدة جديدة مع الدول العربية بما فيها القاهرة كما هو حاصل الآن عبر المفاوضات. صمود هذه الفئة الصغيرة في هذا المكان الضيق فتح معبراً صلباً ومسارات للمقاومة ما زالت في بداياتها.