لا أعتقد أبداً أن تقرير العام 2002 الصادر عن الأمم المتحدة، والذي أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم، يأتي بمثابة «الاعتراف» أو «التقدير» لمكانة وعلم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، بل العكس صحيح، أن ذلك التقرير هو الذي تشرّف وعلا مكانه باسم الإمام علي (ع) كمثل أعلى في إشاعة العدالة واحترام حقوق الناس من مسلمين وغير مسلمين، وتطوير العلم والمعرفة.
وهل هذا وحسب؟ أبداً، بل يمكن اعتبار ذكر الإمام علي (ع) في التقرير الأممي كرمز إسلامي عظيم واصل منهج النبي الأكرم محمد (ص) في تأسيس الدولة على أركان الدين الصحيح والعدل والتسامح والتعددية، وإطلاق الحريات واحترام العلم والعلماء وترسيخ مفاهيم العيش الكريم لكل من يعيش في كنف الدولة الإسلامية أياً كان دينه وجنسه ولونه.
مثل تلك التعاليم العظيمة، لا يحتاج إليها حكام اليوم لأنهم لا يعرفونها ولن يعرفونها. تلك المبادئ والتعاليم العظيمة التي استمدها أمير المؤمنين (ع) من كتاب الله، القرآن الكريم، ومن سيرة صحبته المقدسة مع رسول الله (ص)، لم تكن لتنتهي مع ضربة الخارجي ابن ملجم المرادي في صلاة فجر يوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك بالسيف المسموم، لتنقل الإمام إلى جوار ربه يوم الحادي والعشرين من الشهر الفضيل سنة 40 للهجرة المباركة.
بل ومنذ رحيله قبل 1395 سنة، استهدفته دول وقوى وأقطاب أموية وعباسية وحكومات متعاقبة بأبواقها العفنة وأصواتها القبيحة لتنال من ذلك المقام، فما كان من أولئك إلا أن توافدوا على أحقر مواقع التاريخ، فيما بقي نور وعلم أمير المؤمنين (ع) يفجر غضب قلوبهم المريضة. والسؤال هو: «لماذا كل هذا الحقد»؟ وقد نجد الإجابة في الفقرة التالية:
من رسالة أمير المؤمنين (ع) إلى القائد المظفر مالك الأشتر، فقرة لو طبقها كل حكام الدنيا وكل إنسان على وجه الأرض لعاشت البشرية في سعادة: «وإن عقدت بينك وبين (عدو لك) عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود».
بالعودة إلى التقرير الذي صدر عن الأمم المتحدة في جنيف ووقعت عليه 200 دولة، حسبما أعلن في حينها، تضمن مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب «نهج البلاغة» التي يسرد فيها درراً من الوصايا لقادة الجند لنشر العدالة بين الناس، كل الناس. فلم نجد أبداً في أي مفصل من تفريعات تلك الوصايا ما يحدث اليوم من أفكار طاحنة في عقول بعض الحكام والقيادات من الذين يشاركون حتى في نشر الطائفية والقمع والانتقام من رعيتهم.
من المهم الإشارة إلى أن ذلك التقرير الدولي، صح أم لم يصح القول، دعا الدول العربية والإسلامية للأخذ بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، لأنها «لاتزال بعيدة عن عالم الديمقراطية، ومنع تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة في شئون الحياة، وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة»، بل وبعضها يصر على أن يعيش في الجاهلية وأن يعيد الناس رغماً عنهم إلى الجاهلية بكل قبحها. ولربما رأينا كيف أن الكثير من الناس ممن يتغنون بالعروبة انسلخوا عن عروبتهم واختاروا طريق الهمج الرعاع.
أمير المؤمنين علي (ع)، الذي هو من تحتاج إليه شعوب الأرض والأمم المتحدة لترسيخ وتعزيز أسس السلام في السياسة والحكم وإدارة البلاد والمشورة بين الحاكم والمحكوم، له أيضاً مفاصل الإدارة الحقيقية في محاربة الفساد الإداري والمالي وتحقيق مصالح الناس وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة. وللحاكم الصالح شروط حدّدها الإمام عليه السلام، وهذه الشروط يلزم تطبيقها ليس على الحكام فقط، بل على من يضعون أنفسهم مشايخ دين وأئمة علم وإرشاد: «إن من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس».