كنت في منتصف الثمانينيات وصديق سوري في زيارة عمل لعاصمة دولة شمال أفريقية جميلة تم استعمارها لمدة طويلة، وبعد عدة مواقف للصديق السوري واجه فيها صعوبات بالتعامل في الفندق والمتاجر والمطاعم ووسائل النقل بسبب جفاف المعاملة الشديد، قال ساخرا: «كنا نترحم عليهم من الاستعمار وكيف تحملوه لقرن ونيف من الزمن، أما الآن فعجبي هو كيف تحملهم الاستعمار كل هذه المدة؟».
***
في كتاب الدكتور العراقي الشهير علي الوردي «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» يعدد بعض أسباب ثورة العشرين فيذكر ان العثمانين عندما حكموا العراق كان شعارهم اعطونا ما نريد عن طريق الرشاوى والفساد الاداري المنتشر عندهم، وافعلوا ما تريدون من فوضى وفساد، وعدم التزام بالنظام وعدم النظافة في الدوائر الحكومية، اضافة الى وقوف الادارة العثمانية مع زعماء ورؤساء القبائل والعشائر والشخصيات البارزة في المجتمع ضد خصومهم مما كان يرضيهم ويرضي بالتبعية اتباعهم.
***
ويسترسل الدكتور الوردي بالقول: ان الانجليز عندما احتلوا العراق في السنوات التي سبقت ثورة العشرين ارادوا ان يغيروا هذه المفاهيم إلى مفاهيم الدول المتحضرة كي يرتقوا بالعراق فتعاملوا بشدة مع الرشاوى والخروج على النظام والفوضى وعدم النظافة، ولم يقفوا كعادة العثمانيين مع الزعماء والرؤساء والمبرزين ان كانوا مخطئين بل وقفوا مع الناس العاديين ضدهم ان كانوا اصحاب حق وان تلك الأمور اضافة الى اسباب اخرى ساعدت على قيام ثورة العشرين الشهيرة في العراق.
***
يقول مثل أميركي «ان الحقل يبدو دائما اكثر اخضرارا من الجانب الآخر» اي ان الانسان يعتقد دائما أن ما لديه سيئ وما لدى الآخر جيد ومن ذلك فهناك فهم شائع بأن المستعمر كان مرتاحا ومتنعما في بلداننا عندما كان آباؤنا واجدادنا يقاسون الامرين وقد تكون الحقيقة الجلية غير ذلك فقد كان للمستعمرين ومن احضروهم معهم لادارة بلداننا الخارجة من عصور ظلام استمرت لقرون طويلة معاناتهم مع من يكرهون التغيير والنهوض بدلالة انهم انسحبوا لاحقا من الدول المُستعمرة فحسن حالهم وساء حال تلك الدول.
***
آخر محطة: قام أحد الدكاترة ببحث مفصل لمعرفة هل ساء حال اكبر دولة استعمارية في العالم ونعني بريطانيا بعد تركها المستعمرات ام تحولوا للأفضل؟ قام الباحث بالاستعانة بالأرقام الرسمية التي لا تكذب لقياس مستوى معيشة العائلة البريطانية أعوام 1947، 1977، 2007 اي معدل الدخل وعدد من يمتلك منزلا وعدد الأبناء الملتحقين بالجامعة وعدد السيارات ووسائل الترفيه بالمنزل.. الخ، وقد وجد ان احوال البريطانيين تحسنت كثيرا بعد تركهم الاستعمار عام 1947 وقد يكون أحد الأسباب التي لم يذكرها توقفهم عن الحروب المدمرة للدفاع عن تلك المستعمرات.