رأيت فيما يرى خيراً، اللهم اجعله خيراً. أنني مرغماً، وجدت نفسي في محفل كبير جداً امتلأ بالناس والأجناس وكبار القوم وعلية البشر، وإذا برجل له شارب كقوس «النصر» يرتدي جلباباً عظيماً مزخرفاً مطرزاً يقصدني مباشرةً وهو يضحك ويقول: «أهلاً وسهلاً أيها الرجل. حياك حياك. هاهنا نحتفل ونحتفي بنوابنا العظماء تقديراً لما بذلوا من جهد وعمل وسهر وكد وكدح من أجل هذا الوطن وأبناء هذا الوطن، وحاضر هذا الوطن، وخير هذا الوطن. حياك تفضل (شفيك متردد.. حياك يبه). كل ما نريده منك هو أن تُلقي على مسامعنا بيتين من الشعر تقديراً ومديحاً لهذه الكوكبة العظيمة من الـ (رياييل).. الـ (موب) مقصرين.
في الحقيقة، وجدت نفسي متورطاً أيما ورطة. قلت له بأنني لست شاعراً أيها الرجل المليء برائحة العود، إنما أنا من محبي الشعر، ثم أنني لست على استعداد لهذا المحفل. ابتسم ثم ضحك ضحكة عالية وقال: «لا بأس يا ولدي. ما عليك زود. كل ما أريده منك هو أن تقول بيتين من الشعر تُطيب بهما خاطر هؤلاء الرجال الذي ضحوا وتعبوا وقدموا الكثير للبلد».
وضع الرجل يده على كتفي، وأنا مازلت في الحلم يا جماعة، وابتسم فنظرت إليه وقلت: «بصراحة أنا لا أرى رصيد أولئك الرجال الذين تريد مدحهم إلا كالحاً بالسواد والخيبة».
«خذ..خذ. تفضل. خذ هذا الميكرفون وقل بيتين من الشعر وإلا (بلعن حبايبك هنيه.. يلله تكلم)». بعد موجة الغضب السريعة من ذلك الرجل، مسكت الميكرفون وقلت للمحفل العظيم من نواب الشعب الذين قدموا في ثلاث سنوات ما لم يقدمه أجدادنا أبداً، وما كان لهم أن يقدموه، قلت متحدثاً في مكبر الصوت:
مكرٌ مفرٌ مقبلٌ مدبرٌ معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
صفق ذلك الرجل مسروراً وهو ينظر إلى ذلك المحفل الذي امتلأ بالتصفيق لي على ذلك البيت المسروق من الشاعر العظيم امرئ القيس، وزاد الرجل قوله: «لقد أفرحتني. هل أستطيع القول أن ما قدمه هؤلاء الرجال للوطن جعلك كمواطن قوياً كالحصان: مكر مفر مقبل مدبر معاً. مرحى.. مرحى». أجبته: «لا يا حجي، أنا لست الحصان. أنا جلمود الصخر الذي حطّه السيل من عل بسبب سواد وجه بعض الناس وما فعلوه من تجاوز للأمانة وللمسئولية الوطنية. أما المواطن كحال الصخرة التي تهاوت وسقطت و…». قبل أن أكمل، استدعى بعض الرجال قائلاً: «تعالوا. أخرجوه من هنا.. أبعدوه تلله عليكم».
على أية حال، كان من بين أولئك الرجال، رجل رقيق القلب. قال وقد أبعدني عن القاعة: «هذا الحفل له أهمية بالغة، ألا تعرف أنك تعيش في بلد يسير بالمقلوب؟ فمن يدعي حب الوطن والدفاع عنه تمثيلاً وزيفاً يتم تكريمه وترفيعه، ومن يعمل بصدق وإيمان وقناعة وإخلاص للوطن يصبح خائناً متآمراً. وشفيك إنت ما تفهم. المهم، سآخذك لمرفاعة (شرفة) تجلس فيها هناك دون أن يراك أحد. وسأحضر لك ما لذ وطاب من الشراب والطعام وتجلس لتتابع هذا الحفل البهيج. لا تتحرك ولا تصدر صوتاً حتى لا يكتشفك أحد. يلله فج».
ما حدث بعد ذلك كان مفاجئاً ومدهشاً للجميع، فقد أمسك مكبر الصوت رجل آخر فحمد الله وأثنى عليه واستهل بالإشارة إلى تاريخ البلد وأهل البلد، وحضارتها الضاربة في التاريخ مستذكراً الأدباء والعلماء والمشايخ والأفاضل والشعراء ومنهم طرفة بن العبد الذي قال في أروع أبياته:
لخولة إطلال ببرقة ثمهد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
فأنتم الطل أيها السادة! وأنتم كالبرق أيها الكرام. وأنتم كالوشم.. كل ما قدمتموه لا يتعدى أن يكون (خرطي في خرطي)!
«أسكتوووه.. أخرسوووه»! صرخ ذلك الرجل صاحب الجلباب المطرز، إلا أن الرجل المتحدث كان أشد بأساً مما كنت عليه حتى جرى هنا وهناك ورأيته يقترب من المكان الذي أنا مختبيء فيه فأخرجت رأسي ولوّحت بيدي حتى رآني ودخل مختبئاً معي وواصل حديثه في مكبر الصوت مطمئناً: «فيا أيها السادة. شكراً لكم. لقد رفعتم مستوى المعيشة من جيد إلى سيء. شكراً لكم أيها السادة.. فقد كنتم عوناً للمواطن وخير عون. تنصرون الظالم على المظلوم. شكراً لكم أيها السادة، فما قدمتموه من عمل، رفع اقتصاد البلد من الكساد إلى دون الكساد. شكراً لكم فقائمة أفضالكم وإنجازاتكم العظيمة، لا يمكن ذكرها بالتفصيل، فإن التفصيل فيها يعني إصابة الناس بمسببات الموت المفاجيء. لكن ما أقول إلا… حسبي الله ونعم الوكيل فيكم. حسبنا الله ونعم الوكيل».
على أي حال، استيقظت من ذلك الحلم وأنا أكرّر: «أي والله…
مكر مفر مقبل مدبر معاً
لخولة إطلال ببرقة ثمهد
مبارك عليكم الشهر الفضيل أعزائي، جعله الله شهر خير ويمن وبركات على الجميع. وبعض الناس عاد تعال شوفهم… قمة في الخشوع بعد أعوام من الخنوع!