لم تدمر تهمة الأوطان العربية وتغير خارطة المنطقة السياسية للأسوأ مثل تهمة «العمالة للاستعمار» التي كانت تطنطن بها الإذاعات الثورية والتي أسقطت بسببها الأنظمة الملكية العربية ذات التوجهات الليبرالية، وحلت محلها الأنظمة الثورية القمعية التي أهلكت الزرع والضرع وأفقرت الأمة وتسببت في الهزائم المنكرة واحتلال الأراضي العربية، لذا من الواجب أن نعرف المستعمر الحقيقي كي نعرف أعوانه وعملاءه.
***
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية قررت الحكومة العمالية البريطانية التي انتخبت عام 1945 ان استعمار الدول الأخرى قضية غير مجدية ومكلفة اقتصاديا بسبب التزايد السكاني الضخم للشعوب المستعمرة وبدء هجرتهم المعاكسة لبريطانيا، لذا تم الانسحاب من الهند جوهرة التاج البريطاني، ولم تعد هناك بالتبعية حاجة للتواجد العسكري في الشرق الأوسط الذي وجد لحماية الطريق إلى الهند، وعليه فقد تم سحب القوات من فلسطين وعقدت اتفاقيات جلاء عام 1946 مع العراق ومصر مع اشتراط حق العودة للمنطقة في حال محاولة الاتحاد السوفييتي احتلالها واستعمارها كما تم له احتلال دول شرق أوروبا تعلما من درس السماح لهتلر باحتلال الدول الأوروبية الصغيرة، وهو ما تسبب في إطالة زمن الحرب الكونية الثانية لست سنوات بسبب استخدام هتلر للموارد البشرية والطبيعية للدول التي احتلها، وقد حرك ستالين المظاهرات في مصر والعراق ضد معاهدتي بيفن ـ صدقي وبيفن ـ جبر رغم تضمنهما سحب القوات البريطانية منهما دون حرب أو ضرب.
***
ولم تكن الولايات المتحدة دولة استعمارية، ومن ثم لا صحة لأكذوبة «محاربة الاستعمار الغربي» التي راجت آنذاك والتي قيل إنها السبب في تحرر الشعوب، والمثال الواضح على زيف تلك الدعاوى، منح بريطانيا الكويت استقلالها عام 1961 والإمارات عام 1972 وجميعها دول نفطية وافرة الثراء قليلة السكان لم تطلق فيها رصاصة واحدة ضد الإنجليز، بل على العكس فقد تمت محاولة طلب تأجيل الانسحاب البريطاني من دول الإمارات المتصالحة خوفا من احتلالها بالكامل من قبل شاه إيران، إلا ان بريطانيا أصرت على الالتزام ببرنامج الانسحاب من شرق السويس.
***
في المقابل كان الاتحاد السوفييتي هو الدولة الاستعمارية الأولى في العالم، حيث كان يستعمر الجمهوريات الإسلامية وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق ودول القوقاز بدلالة استقلالها اللاحق منه، إضافة الى احتلال واستعمار دول أوروبا الشرقية فور انتهاء الحرب الكونية وأفغانستان لاحقا، ومن ثم فقد كان حلفاؤه الثوريون بالمنطقة ممن منحوه القواعد العسكرية والمعاهدات الدفاعية التي كانت شروطها أسوأ بكثير من شروط حلف بغداد مع قيام الدب السوفييتي وسفرائه ممن كانوا بمثابة مندوبين ساميين بالتدخل الكامل في شؤون حلفائه بالمنطقة الداخلية والخارجية، هو من يصح أن يطلق عليه بحق لقب «الاستعمار» وعلى حلفائه «أعوان وعملاء الاستعمار» لا العكس.
***
آخر محطة:
(1) المنطق المعكوس الذي ساد آنذاك يتكرر هذه الأيام بالمنطقة، فمن يدعي بالعمالة على الأنظمة والتوجهات الليبرالية في مصر وليبيا وغيرهما هو.. للعمالة أقرب!
(2) من الأكاذيب الفاقعة لذلك العصر، دفع موسكو لعملائها في المنطقة وخارجها لخلق منظومة ادعوا انها غير منحازة للمعسكرين الشرقي أو الغربي، بينما هي في واقعها منحازة حتى النخاع للاتحاد السوفييتي ونظامه القمعي ومعادية حتى النخاع للمعسكر الليبرالي الغربي حتى انها سكتت عن نحر الشعب الهنغاري (عام 1956) والتشيكي (عام 1968) من قبل جيش الاحتلال السوفييتي!