الشعور الوحدوي العربي ليس جديدا وقد حركه نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الظلم والاضطهاد الذي تعرضت له الشعوب العربية من الاستعمار العثماني والانجليزي والفرنسي والايطالي، مما خلق شعورا طاغيا لدى كثيرين بأن الوحدة العربية هي الحل وهو مسار كان بإمكانه بالفعل ان ينجح لو بقيت الفكرة محتضنة من الوحدويين الحقيقيين امثال الملك عبدالعزيز بن آل سعود، طيب الله ثراه، وبعده الشيخ زايد آل نهيان، رحمه الله، الا ان ما حدث هو ان شعارات الوحدة اضحت مختطفة من حكام الانقلابات العسكرية ممن كانوا يعملون تماما بعكس ما يدعون.
***
فقد تسلم قادة انقلاب 1952 الحكم وكانت السودان في حالة وحدة اندماجية مع مصر، وبدأ قادة الانقلاب منذ اليوم الاول وبشكل ممنهج ومنظم في قطع الوشائج التي تربط البلدين الشقيقين الواحدة تلو الاخرى مبتدئين بتصعيد حالة العداء مع الانجليز التي تكفلت اتفاقية صدقي بيفن العام 1946 بجلائهم عن مصر والذين لهم تأثير قوي بالسودان، مما جعلهم يعملون على فصله، ثم تسببت محاكمات عمال كفر الدوار في اغسطس 1952 واتهامهم بالشيوعية واعدام البعض منهم في خسارة تأييد الحزب الشيوعي السوداني القوي، وفي العام 1953 بدأت محاكمات قيادات احزاب العهد الملكي (الوفد، السعديين، إلخ) مما خسر الوحدة امتداده السوداني، وتم استفزاز الحركة المهدية كما اخبرني د.الصادق المهدي عندما رفعت حركة الجيش شعار «بسط السيادة المصرية على السودان» بدلا من الاتحاد وتلاها التعسف في محاكمات الاخوان المسلمين بعد محاولة اغتيال عبدالناصر ومن ثم قطع وشائج اخرى تربط البلدين.
***
وسلم عبدالناصر ملف السودان بناء على نصيحة الانجليز لضابط أخرق يدعى صلاح سالم بقصد احراجه حتى ولو على حساب انفصال السودان، واعتمد سالم على منهاجية الرشاوى فلم يجرؤ حتى الحزب الاتحادي السوداني برئاسة اسماعيل الازهري الذي فاز بالانتخابات على معطى استمرار الوحدة ان يجاهر بدعم الوحدة كي لا يتهم بالارتشاء، واتت القشة التي قصمت ظهر بعير الوحدة عندما عزل وضرب الرئيس محمد نجيب الذي عاش ودرس في السودان، فلم يبق احد من السودانيين مع الوحدة كما تم لاحقا تكرار الفعل مع السوريين (1958 ـ 1961) وحتى اليمنيين حيث ما ان وصل الامير الوحدوي البدر للحكم حتى طبخت القاهرة انقلابا ضده.
***
والوحدة القومية تقوم على وحدة العرق وتتبناها في مختلف بلدان العالم الاحزاب «اليمينية» وتعارضها بالعادة الاحزاب «اليسارية» التي تؤمن بوحدة الطبقة العاملة، اي كانت اعراض منضويها، في منطقتنا ثم بشكل غريب وفريد مزج الماء والزيت فرفعت الاحزاب اليسارية كالناصرية والبعثية والقوميين العرب الذين تحولوا للماركسية شعارات الوحدة العربية وقاموا في المقابل بتقسيم شعوبهم على معطيات طائفية وعرقية، ما تسبب في تشرذم وتفتيت البلدان العربية بدلا من وحدتها.
***
آخر محطة: تعاطفت شعوب الخليج مبكرا مع قضايا العرب وشركائهم في الاوطان حتى ان الشاعر عبداللطيف النصف ارسل اوائل عشرينيات القرن الماضي من ضفاف الخليج قصائد نصرة لثورة الريف المغاربي بقيادة الامير عبدالكريم الخطابي الذي حقق انتصارات مذهلة على الاسبان ولم يقدروا عليه الا عندما ارسلت فرنسا مئات الآلاف من جندها واستخدم الاسبان الغازات السامة ضده، ومما جاء في القصيدة:
طلعت فظنوا في ثيابك طارقا
وذكرتهم ايام طارق فيهم
صدمتهم وسط الملاحم صدمة
فكم بعدها ثكلى ترن وترزم
اذا سددت فهي القضاء مسددا
وان اطلقت فهي البلاء المحتم
تدك الجبال الشم وهي منيعة
وتحصد جمع الجيش وهو عرمرم