كنت قد انتهيت للتو من قراءة كتاب الاستاذ العكاري اللبناني حازم صاغية «البعث السوري تاريخ موجز اصدار 2012»، عندما تفجر النقاش حول مقاله الذي نشره في 4/4/2014 وأسماه «الاستقرار دين المرحلة».. وعكّر من خلاله أمزجة من ردوا عليه من الزملاء الاعزاء، وهم عبدالله بن بجاد ومشاري الزايدي وتركي الدخيل، وملخص ما قاله هو نقد حاد لجعل «الاستقرار» وسيلة لتخدير الشعوب ومنع حراكها، واتهم دعاوى الاستقرار بأنها المسؤولة عن توحش الشعوب وبربريتها ونزع انسانيتها! وعجبي يا استاذ حازم لما كتبت.
***
وأذكر الزميل صاغية، وهو الكاتب والمؤرخ، بما حدث في بلده في 13/4/1975 عندما بدأت الاحداث اللبنانية كما سميت حينها بواقعة «باص عين الرمانة»، وقد رفض حينها رئيس الحكومة رشيد الصلح انزال الجيش لوقفها، وفي 23/5/197(5) ولم تكن حالة الانفلات قد سميت بعد بالحرب الاهلية- تم تشكيل اول حكومة عسكرية في تاريخ لبنان برئاسة العقيد نور الدين الرفاعي بقصد وقف الاقتتال ونزع اسلحة الميليشيات وفرض «الاستقرار» الامني، وكانت لبنان مرشحة بالفعل لان تكون «سويسرا الشرق» بعد بدء تدفق مليارات البترودولار عليها.
***
حينها اجتمعت قيادات العمل الوطني بتاريخ 24/5/1975 في منزل المفتي حسن خالد بحضور الرئيس رشيد كرامي والزعيم كمال جنبلاط وقيادات يسارية وفلسطينية، وقالوا بالامس ما يقوله الاستاذ صاغية اليوم، وهو ان الديموقراطية اللبنانية واعرافها وديكوراتها هي المهم ومقدمة على مطلب «الاستقرار الامني»، فسقطت نتيجة لذلك وفي اليوم التالي الحكومة العسكرية، وتفشت الفوضى وعمليات الاقتتال والاغتيال التي كان اول ضحايا من رفضوا خيار الاستقرار الامني، ونعني المفتي وكرامي وجنبلاط، وبدأت الحرب الاهلية في الاتساع حتى استمرت لمدة 15 عاما على ارض لا تزيد مساحتها على 10 آلاف كم2، اي ما يقارب مجموع سنوات الحروب الاهلية الاميركية (186(1) 1865) والروسية (191(7)1921) والصينية (194(5)1949) والاسبانية (193(6)1939).
***
والسؤال المهم هو: لو عاد التاريخ لذلك اليوم من مايو 75، فهل سيفضل الاستاذ حازم صاغية وغيره من اللبنانيين ان تعطى الاولوية «للاستقرار الامني» والبناء وحفظ الدماء عبر القبول بحكومة عسكرية مؤقتة قد تكون قد شكلت من خارج رحم الدستور وقواعد اللعبة الديموقراطية اللبنانية الا انها تحقن الدماء وتحقق الإنماء والازدهار؟ ام ان الافضل التمسك بدعاوى ان الديموقراطية هي الخيار الذي تصغر امامه ويقبل من خلاله كل الدماء والدمار الذي حل بلبنان وخلق حالة عدم استقرار سياسي وامني ما زالت قائمة حتى يومنا هذا؟!
***
آخر محطة: (1) لإيضاح حقيقة ان الاستقرار الذي يحفظ كرامة الانسان هو الحياة، وان الفوضى هي الموت، نسأل: هل يفضل الانسان العيش هو وابناؤه في بلد مثل لبنان لا استقرار امني فيه وبالتبعية لا كهرباء ولا بنى اساسية متوافرة او خدمة صحية وتعليمية وبيئية متميزة، ويحتل مرتبة متأخرة في مؤشرات الشفافية ومتدنية في معدلات الدخل الا انه يستمتع بديموقراطية كاملة الدسم وحريات لا حدود لها؟! أم العيش في سنغافورة التي يسكنها العدد نفسه من السكان وان قلت كثيرا عن لبنان في المساحة ولا تتمتع بمستوى الديموقراطية والحريات اللبنانية، الا انها تزيد عنه كثيرا في معدلات دخل الفرد، حيث تحتل المركز الثالث على مستوى العالم مقابل المرتبة الـ 68 للبنان وتحظى بموقع متقدم جدا في مؤشرات الشفافية وجودة الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية ومستوى القوة العسكرية؟!
(2) الشعب اللبناني مكون تقريبا من عنصر واحد هو «العربي»، وينقسم الى ديانتين سماويتين، بينما تنقسم سنغافورة الى 3 اعراق و3 ديانات مختلفة تماما، ومع ذلك نجد ان الشعب اللبناني اغلبه مهاجر، ولو فتح الباب للباقي لما بقي احد في جنة الديموقراطيات والحريات، بينما ندر ان تجد سنغافوريا مغتربا، وفي هذا الاجابة الفاصلة والعملية عن سؤال: ايهما افضل لكرامة الانسان، العيش في بلد مستقر دون ديموقراطية ام في بلد ديموقراطي دون استقرار؟