الصورة من حولنا ممتلئة بالتحولات والصراعات: عنف وغضب. احتجاج ومطالبات. وحيث لا نجد عنفا هناك تخوف من أن يقع هذا العنف بين يوم وليلة. لقد عم الارتباك وأحياناً الهلع النظام العربي برمته، ولهذا بالتحديد أصبح ما يعرف بالحرب على الإرهاب شعاراً مرفوعاً في أكثر من مكان، إذ يذكر هذا الشعار بما أعلنه الرئيس السابق جورج بوش في حربه على الإرهاب، فبعد سنوات من الحرب لا تنظيم «القاعدة» هُزم، بل عاد أكثر قوة في العراق واليمن وأماكن أخرى، ولا المنظور الأميركي لكل من العراق وأفغانستان تحقق، بل انتهت الولايات المتحدة إلى حالة تراجع وبعض من الانكفاء. الحرب على الإرهاب التي يشنها النظام العربي بالصورة الراهنة لا منتصر فيها طالما بقي الاحتكار السياسي الاقتصادي والحزب الأوحد والمرشح الواحد والسلطة التي لا تُسأل. ويحق لقوى عدة في المجتمع العربي أن تقلق نتيجة غياب الأمن والاستقرار، إلا أن الناس ستقلق حتماً نتيجة ارتفاع نسب البطالة والفقر وتراجع وضع الطبقة الوسطى وتآكل العدالة وانتشار الفساد وسيطرة الرؤى الأمنية والعسكرية والمصالح الضيقة على الدول. إن مقايضة الاستقرار بالموافقة على تردي الأجهزة والاقتصاد والحقوق والحريات لن يصمد في المستقبل… فالمسائل التي أثارها الربيع العربي تبقى مفتوحة على مصراعيها على مدار هذا العقد الطويل الشائك.
وبينما يسعى النظام العربي، من خلال حربه على الإرهاب، لاستعادة المبادرة والسيطرة على الشارع الخارج عن الإطار، إلا أن عودة الشارع كما كان وضعه قبل الربيع لن تكون ممكنة. فالدولة العربية العميقة حقيقة قائمة ومؤثرة، لكنها حتى الآن لا تمتلك القدرة على التحول نحو المشروع الوطني الجامع والانفتاح والتغير الذي يتعامل مع الإنسان العربي وحقوقه وقضاياه. لهذا بالتحديد، ندخل في هذه الفترة في عصر المفاجآت، فما وقع في الربيع العربي شكل سلسلة مفاجآت، وما سيقع في السنوات القليلة المقبلة سيحمل إلينا مزيداً من المفاجآت. لقد ترك العرب حالة الركون السائدة في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته حيث كانت معظم الصراعات ذات منشأ وقوة دفع خارجية، ودخلوا الآن من الباب الواسع في زمن يتميز بسرعة تحولاته الذاتية والداخلية.
وسورية بالتحديد من أكبر النماذج التي تعبر عن مدى استحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كما أن مصر، وهي دولة أكثر قوة وتوحداً، لن تستطيع هي الأخرى إعادة إنتاج نظام حسني مبارك أو شكل معدل له، فهذه المحاولات سيكتب لها الفشل. إن الطريق الوحيد أمام النظام العربي من الخليج إلى المحيط، يتطلب البحث عن طرق جديدة جوهرها عقد الصفقات السياسية العادلة والتطبيع الصادق مع المختلفين سياسياً وفكرياً، في ظل امتلاك رؤية تنموية تلامس طموحات الطبقات الشعبية والقوى الشبابية والتيارات السياسية الدينية والليبرالية السلمية في المجتمع. وهذا لا يمنع على الإطلاق محاولة السعي للتوصل إلى اتفاقات مع القوى العنيفة بما يخلق الشروط لإمكانية مصالحات شاملة. فليست كل القوى التي تلتزم العنف وتصنف في دائرة الإرهاب متشابهة، وهي لا تحمل في جلها فكراً أحادياً عدمياً، بعضها نتاج أوضاع من الظلم والتهميش وبعضها نتاج الأطر المدرسية والتعليمية نفسها التي شجع عليها النظام العربي في العقود الماضية. هذه الأطراف قادرة على الدخول في مبدأ المراجعات الجادة لو توافرت فرص حقيقية للتغيير.
إن الإرهاب مدرسة في العنف المنظم ضد مؤسسات ومواطنين أبرياء وذلك باستخدام وسائل مثل التفجير والخطف والقتل. لكن كل ما عدا ذلك من تعبير فكري وتظاهرات ومسيرات سلمية ونقد قاس تجاه سياسة أو مسؤولين وقادة أو شخصيات سياسية وقضائية وعسكرية أو حتى في حالات وقوع شغب نتيجة اعتقالات عشوائية، أو مقتل شبان في تظاهرة سلمية، كل ذلك يجب ألا يخضع لمعيار الإرهاب. هناك مسؤولية كبرى على الدولة في تطوير قدرتها على التعامل مع الغضب والرفض والاحتجاج الناتج عن أخطاء مقصودة وغير مقصودة ارتكبتها. فهل كانت مثلاً رد فعل السوريين في درعا على اعتقال أطفال من جانب أجهزة أمنية شغباً وإرهاباً، أم مقاومة لجهاز يذل المواطنين وسبق أن أمعن في إذلالهم عقداً وراء العقد؟ ألم يتحول السوريون إلى الثورة بعد أن عجز النظام عن عزل ومعاقبة المتسببين في الغضب ومطلقي النار على الناس من قادة الأجهزة الأمنية في درعا؟ أليس الظلم أحد أهم المسائل التي يجب أن تتفادى الدولة (كل دولة) ممارسته؟ وكيف تعرف الدول والسلطات أنها مارست ظلماً؟ فالكل ينكر، بل ويخبئ ممارسات الظلم التي تسبب كوارث نفسية وسياسية وإنسانية.
هناك معادلة يجب الالتفات إليها، حول عنف الأنظمة وحريات المواطنين. فكلما استخدمت السلطة السياسية وسائل عنفية في التعامل مع من يعبرون عن آرائهم بوسائل سلمية (خطورة القوانين التي تمنع التظاهر مثلاً) فإن المزيد من الأفراد يتحولون نحو العنف كما يشعرون باليأس من الآليات الرسمية ويتجهون للبحث عن وسائل جديدة للتعبير خارج النظام السياسي وأجهزته البرلمانية والرسمية. فقانون التظاهر الذي أقر أخيراً في مصر والذي يحاكم بموجبه شبان وقادة ممن فجروا ثورة ٢٥ يناير وساهموا في انتفاضة ٣٠ يونيو، مؤشر إلى طبيعة الأوضاع. إن افتقاد المشروع الرسمي العربي، حتى اللحظة، قيم الإصلاح والعدالة الاقتصادية والقانونية والمشاركة والشفافية والحريات سيجعل النظام العربي في حالة نزف مستمر يصعب السيطرة عليها.
إن الإرهاب يعرّف اليوم وفق رؤية السلطة السياسية الممسكة شرعية احتكار أدوات العنف وأدوات الإعلام في الدولة. لهذا، فقبل الحديث عن إرهاب صادر عن أفراد المجتمع وفئات مهمشة الكثير منها ضحية لمشكلات سابقة، لا بد من التساؤل عن دور الدولة في هذا الوضع الخطير. الدولة بما تمتلك من جيش وقوات وأجهزة أمنية وأموال وقدرات تمثل الكثير من القوة. لكن هذه الشرعية التي تمتلكها الدولة مشروطة بعدم استخدام هذه القوة ضد المواطنين أو لمصلحة احتكار السلطة من فريق في السلطة، أو من الأجهزة الأمنية والعسكرية. إن السماح للأجهزة بالتصرف بلا قيود قضائية ورقابية، وصولاً إلى التدخل في الصراع الاجتماعي والسياسي والفئوي، هو المقتل الأهم المفجر وحدة الدولة العربية كما عرفناها منذ نشوئها في القرن العشرين.
هذا لا يعني القبول بالإرهاب عندما يقع، وهو لا يعني أنه لا يشكل خطراً على مجتمعه، لكن في غالبية الحالات يكون الإرهاب نتاج جروح عميقة في الهوية، ونتاج حرمان ونواقص وتعسف رسمي وسوء توزيع وظلم وتهميش وسوء تصرف من الدولة. أليست الدولة ملامة على مناهجها التعليمية الركيكة التي جعلت الأنسنة والتفكير الحر والنقدي والمستقل آخر اهتماماتها؟ أليست هذه الأوضاع نتاج الدولة المشغولة بالصراع على الكرسي قبل الانشغال بالهم الوطني العام الذي خلقت الدولة من أجل تطويره؟ وبما أن العدالة ليست من أولويات الدولة، أليس من الطبيعي أن يبرز العنف في حديقتها الخلفية أو الأمامية؟
في ظروف كهذه لا يشترط في من يمارس العنف حمله لتصور يساهم في إنهاء عذاباته وعذابات الآخرين. إن منطق الإرهاب، كما نفهمه، يدمر كل شيء، فالإنسان اليائس لا يمتلك تصوراً للمستقبل. لكن، إذا لم نتعامل مع مسببات هذا العنف وجنونه المنبثق أساساً من التهميش والاحتكار السياسي وتردي الدولة ومؤسساتها وتراجع التعليم والحريات سيتحول واقعنا إلى مزيد من الدموية والفوضى.
في ستينات القرن الماضي وسبعيناته عمّ الإرهاب دول ومجتمعات أميركا اللاتينية، انتشر فيها الخطف، والعصابات المسلحة، والجماعات المقاتلة، وانتشرت جماعات مثلاً في الباراغواي (التوباماروس) تمارس سرقة البنوك وأخرى تخطف الجنود الأميركيين. وقد غضبت الدول وردت، لكن بلا فائدة، إذ تحول الإرهاب إلى ظاهرة مسلحة تسيطر على أقاليم ومناطق. لقد تحول العنف في أميركا اللاتينية في السبعينات إلى وسيلة تعبير بعد أن أغلقت الأنظمة المسيطرة وسائل التعبير السياسي.
لكن، بمجرد فتح المسار السياسي في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته تغير كل هذا التاريخ القاتم في أميركا اللاتينية. فالتحول الديموقراطي جعل حملة السلاح أكثر استعداداً للتخلي عنه لقاء المشاركة في دولة يحكمها قانون العدالة والحريات والانتخابات الدورية. وبينما استمرت قوة الجيوش في أميركا اللاتينية، إلا أنها تجاوزت في الوقت نفسه حالة الديكتاتورية لمصلحة توازنات جديدة وحريات ورقابة مجتمعية. هكذا، نجحت دول مثل البرازيل في تحقيق ما وصلت إليه.
وإذا كان لنا البحث عن الاتجاه التاريخي الذي تمر به المجتمعات العربية قاطبة، فستزداد في المرحلة المقبلة قوة وتأثير حركات الاحتجاج السلمية، وسترتفع وتيرة التعبير السلمي كتابة وقولاً. سيصبح لدينا سجناء سياسيون ومطاردون لديهم إرث طويل في مقاومة أساليب القمع. ستتعمق مع الوقت روح الرفض والنقد في الساحة العربية. سيعيش النظام العربي مع حالة استنزاف بفضل صراعه ضد الإرهاب العنيف وضد المعارضة السلمية في الوقت نفسه وذلك في ظل انغلاق السبل السياسية الهادفة إلى بناء إجماع جديد. هذا سيضع الواقع العربي في تناقضات جمة، خصةوصاً إذا ما استمر عجزه عن التمييز بين المعارض السلمي الذي يعبر عن نفسه بالبرنامج والموقف والإضراب والتظاهر والكتابة، والمعارض المسلح الذي يفجر في كل مكان. في النهاية لن تجد الدولة العربية، إن أرادت تفادي البلقنة والتقسيم، من طريق أمامها سوى طريق فتح المساحة السياسية أمام الجيل العربي الصاعد، والقبول بمبدأ اكتشاف الطريق المتعرج المؤدي إلى التحول الحقوقي والديموقراطي.