الديمقراطية ليست بحاجة إلى آباء وأوصياء، ومرة تلو الأخرى يظهر الشباب الحر أن شيوخ القبائل مكانتهم اجتماعية ورمزية لكل قبيلة وكفى، ودور هؤلاء الشيوخ لن يتجاوز تلك المنزلة الاعتبارية. وما حدث، قبل يومين، في اجتماع عدد من أبناء قبيلة العوازم عند الشيخ بن جامع من رفض شبابي واع لأي إملاءات أو وصاية أبوية لشيخ القبيلة على أبنائها، وعدم قبولهم انتخابات الصوت الواحد -رغم مسحة القداسة القانونية التي أضفاها عليه حكم المحكمة الدستورية- هو رسالة ليست موجهة إلى بن جامع فقط، وليست لبقية أمراء وشيوخ القبائل، وإنما للسلطة الحاكمة تخبرها بجلاء بأن محاولاتها لاحتواء مؤسسة القبيلة عبر شيوخها وأمرائها لم تعد مجدية، مثلما كانت تجري العادة التاريخية في الكويت وبقية الدول الخليجية، فسلطة "شيخ القبيلة" لم تعد كما كانت ولائية، وإنما وضعت في نصابها الصحيح كرمز "تراثي" روحي لا يتجاوز ذلك.
قبل فترة وقف الشيخ بن جامع بصلابة ضد الممارسة السياسية للحكم، ووجه رسالة قوية إلى السلطة بعد صدور حكم الحبس الابتدائي ضد النائبين الصواغ والداهوم، وقال في تجمع شعبي كبير ما لم يقله أحد من قبل برفض الحكم! وسواء كانت تلك "فزعة" تضامنية من الشيخ بن جامع لأبناء قبيلته أو رفضاً واعياً لمضامين الحكم، إلا أن بن جامع في ما بعد غير قناعاته، ووقف مع الصوت الواحد والرفض القاطع للحكومة البرلمانية، وهذا شأنه، وهذا حقه في التعبير عن رأيه، ولا تجوز إدانته من ناحية، ولا التهليل له من ناحية أخرى. إلا أن الحماس الشبابي للعوازم، بالأخص، وغيرهم من شباب الكويت، بالأعم، الرافض لسياسة الفرض من أعلى السلطوية في تحديد طريقة التصويت، لم يتوقف ولم يتأثر بتغير موقف الشيخ بن جامع، فالنائبان السابقان الصواغ والداهوم وقفا ببطولة ضد الصوت الواحد بعد حكم "الدستورية"، ولم يبصما على رأي شيخ القبيلة، بل مارسا احترامهما له فقط، وهذا الاحترام التراثي لا يعني الخضوع للوصاية القبلية، ولا الاستسلام لها على حساب المواقف المبدئية.
لابد أن نلاحظ هنا أن الصواغ والداهوم محسوبان على التيار الديني، وفي التسعينيات كتب الراحل خلدون النقيب عن اختراق التيار الديني للقبيلة، كما تمثلت تلك الظاهرة في معظم الانتخابات التي جرت، فقد عمدت التيارات الدينية إلى اختيار المرشح الأقوى من القبيلة، بعد احتسابه ممثلاً لها، سواء كانت تلك جماعة "حدس" مثلاً أو التكتل السلفي– قبل أن يصبح "تكتلات" شتى.
الآن، وهذا ليس من شباك التمنيات wishful thinking، الموضوع أصبح أكبر من انتماء ابن القبيلة لهذا أو ذاك التيار الديني السياسي، بل أصبح الانتماء "لنهج" المعارضة هو ما يتجاوز الانتماء القبلي، ورغم أن "أغلبية" النهج المعارض ذات صبغة دينية محافظة، فإنها خطوة مستحقة في رفض الممارسة الوصائية الأبوية، وفي الوقت ذاته تمثل علامة فارقة على تقدم جيد في الوعي الديمقراطي لدى شباب القبائل، إلا أن الطريق أمامنا مازال طويلاً وشائكاً كي نبلغ الأفق، ونجاور مرحلة النضوج لعوالم الديمقراطية والحريات والمساواة الإنسانية، ولنتجاوز ليس الانتماء القبلي وحده، وإنما كل الانتماءات الهامشية المعوقة للتقدم الإنساني، سواء كانت قبلية متخلفة أو طائفية نتنة.
أبناء القبائل قدموا رسالة واضحة في مسيرتهم إلى الأمام، بينما بعض أو الكثير من المترفين "الأرستوكرات" مسحوا كل سطور الرسالة الوطنية المفترضة بالليفة والصابون، خسارة…