يقول «وين»، عندما كنت في العاشرة أحضر والدي جهاز هاتف لبيتنا وعلقه على الحائط، وكنت استمع بانبهار عندما تتكلم والدتي من خلاله. واكتشفت يوما أن سيدة رائعة تعيش داخله اسمها «الاستعلامات من فضلك Information please»! وكانت تعرف كل شيء وتجيب عن أي سؤال. وفي يوم كنت وحيدا في البيت، ألعب بمطرقة والدي ودون أن انتبه سقطت على يدي وشعرت بألم شديد في إبهامي، ولم يكن هناك داع لأن ابكي، فلن يسمعني أو يواسيني احد، وهنا فكرت في الاتصال بالسيدة «الاستعلامات من فضلك». رفعت السماعة، كانت تجربتي الأولى مع تلك الجنية التي تعيش بداخله وقلت «الاستعلامات من فضلك»، وخلال ثوان ردت علي بصوت واضح: «الاستعلامات»! فقلت لها، والبكاء يخنقني، ان المطرقة سقطت على اصبعي وأن أمي في الخارج، وأنا وحيد في البيت، فسألتني إن كان هناك دم يخرج من اصبعي وعندما نفيت ذلك، سألت إن كان بإمكاني الوصول الى علبة الثلج في الثلاجة، وعندما أجبت بنعم طلبت أن أضع اصبعي بين قطعتي ثلج وسيختفي الألم والورم! لا أدري لماذا آمنت بما قالته، فقد اختفى الألم خلال لحظات قليلة، ومنذ يومها أصبحت اتصل بـ «الاستعلامات من فضلك» في أي أمر يحتاج فيه للمساعدة، سواء تعلق بواجب منزلي أو تهجئة كلمة أو حتى واجب حسابي، وكانت دائما ترد وتساعدني. وفي يوم أخبرتها بموت طائرنا الكناري، فواستني، وسألتها لماذا يموت طائر جميل يغرد كل يوم للعائلة، وينتهي كومة ريش في قفص صغير؟ وهنا شعرت بأن حزني اثر فيها فقالت: يا «وين» هناك عوالم اخرى يغرد فيها الطير»! ولسبب ما جعلني جوابها أشعر بالرضا. استمرت علاقتي بـ «الاستعلامات من فضلك» لسنوات، إلى أن انتقلنا، وكنت في العاشرة حينها، للعيش في مدينة أخرى. ولفترة افتقدت صديقتي «الاستعلامات من فضلك»، ولم اجرب الاتصال بها، لشعوري بأنني تركتها خلفي في ذلك الصندوق المسمى بالتلفون! كبرت بعدها، ولكنني لم انس مكالمات الطفولة أبدا، خاصة في اوقات الشدة، وكيف كنت سعيدا وانا صغير لمعرفتي أن بإمكاني اللجوء اليها في اي وقت. وكم كانت صبورة معي وتتحمل أسئلة صبي ساذج لا تعرف عنه شيئا وتجيب عنها! وفي يوم توقفت لنصف ساعة في مطار مدينتي القديمة، وأنا في طريقي للكلية، ووجدت نفسي اتجه لهاتف عمومي وارفع السماعة وأطلب «الاستعلامات»، وكالمعجزة جاء الصوت العذب نفسه الذي أعرفه جيدا. ولأنني لم أخطط لما كنت سأقوله ومن دون ان اشعر قلت لها: هل يمكن أن تساعديني في تهجئة كلمة؟ وهنا ران صمت طال قليلا قبل ان تقول: اعتقد أن اصبعك لا يؤلمك الآن! وضحكنا معا. وقلت لها انني دائما ما تساءلت بيني وبين نفسي إن كنت تعلمين ما كانت تعنيه من أهمية لي في تلك الأيام! فردت قائلة: وانا أيضا اتساءل إن كنت تعلم ما كانت تعنيه اتصالاتك البريئة من أهمية لسيدة مثلي، فأنا لا ابناء لي، وكنت انتظر مكالماتك بشوق! فقلت لها انها كانت دائما تخطر على بالي وأنني فكرت كثيرا في أن أتصل بها، ولكني لم افعل، وسألتها إن كان بإمكاني الاتصال بها في المرة القادمة التي ازور فيها اختي، التي تسكن في منطقتها فقالت: بكل سرور، وأخبرتني أن اسمها «سالي» وما علي سوى السؤال عنها. بعد ثلاثة اشهر دفعتني الصدف لتلك المدينة، وعندما اتصلت بالاستعلامات سمعت صوتا مختلفا، فسألتها عن «سالي» فسألتني الموظفة ان كنت اعرفها، فقلت انني صديق لها، واخبرتها باسمي، فقالت ان سالي كانت تعمل ساعات أقل كثيرا في الاشهر القليلة الماضية بسبب مرضها، وأنها توفيت قبل بضعة أسابيع! غمرني الحزن، وقبل ان اقفل الخط، سمعتها تقول: انتظر، هل قلت انك صديق قديم لها، هل أنت «واين»؟ وعندما أجبت بنعم، قالت ان سالي تركت لك رسالة قصيرة تقول فيها: «ان هناك عوالم اخرى نغرد فيها»، وانني سأفهم ما تقصده برسالتها تلك! فقلت شكرا ووضعت السماعة، وأنا أعرف تماما ما قصدته سالي!
هنا علينا ألا نقلل من اهمية ما نتركه من انطباعات على الآخرين، وأن نتساءل ان كنا نجحنا في أن نلمس جزءا من حياة من هم حولنا، من قراء وأحبة واصدقاء.
أحمد الصراف