تعتبر أغنية «هيهات يا أبو الزلف» من أجمل أغاني الزجل اللبناني، أي الشعر الغنائي التراثي الشعبي المنتشر غالبا في جبل لبنان، والذي يحتل مكانة جميلة في وجدان اللبناني، ولا تزال هذه الأغنية تردد من الخاصة والعامة هناك، ومنذ عقود طويلة، في كل مناسبة وفرح، ولم يكن غريبا بالتالي أن يشدو بها مطربون كبار كصباح وفيروز ونجوى كرم ووديع الصافي وحتى نعيمة عاكف. وتقول كلماتها: «هيهات يا بو الزلف عيني يا موليَّ.. لبنان احلى دني، هوا وزهر وميّه.. أوف أوف أوف. لبنان طيب الغفا من عطر نسماته، وبيضل غافي القمر ع كتاف تلاتو، وطاير خيال الوحي ع جناح ارزاتو، حامل حنين الجبل للمجد غنياتو، ولبنان احلى دني، هوا وزهر وميّه»!
وكنت دائما أعتقد أن أبو الزلف يقصد به الشاب صاحب السوالف الطويلة، وفي اللهجة الكويتية نطلق كلمة «زلوف» على السوالف. ولكن يقال ان الكلمة مشتقة من «الذلف»، أي «الأنف الصغير ذو الأرنبة المستوية!»، والذلفاء هي الحسناء الغانية بجمالها، وأبو الذلف بالتالي هو الشاب الوسيم. ويقال ان هذه الأغنية سمعت للمرة الأولى من جواري البرامكة وهن يغنينها على قبور أحبابهن الذين نكب بهم هارون الرشيد، الذي أزيل اسمه من أحد شوارع الكويت أخيراً. وأن «دنانير»، وهي أوفى جواري البرامكة، بقيت على وفائها لمولاها يحيى البرمكي، على الرغم من انها «آلت» للخليفة، وانها كانت تشدو باللحن، وإن بكلمات مختلفة. وربما يكون صحيحا أيضا إن اصل التسمية، كما ورد في مرجع آخر، يعود إلى «السالف»، وهو الجزء من اللحية المقارب للأذن والذي يترك ليطول، وهذا ما كان يتميز به مسيحيو ويهود الدول الإسلامية، الذين ربما كانوا يجبرون على إطالة سوالفهم للتعرف إليهم! وكانت حياة هؤلاء أكثر انفتاحاً، واكثر حبا للطرب، وان التأوهات الكثيرة التي تحتويها الأغنية كانت تعكس معاناتهم من الطريقة التي كانوا يعاملون بها من قبل المسلمين. ولكن يبدو، كما هي الحال في «كل» تاريخنا، ان لا شيء يمكن الجزم به أو المراهنة على صحته، فقد تعدد الرواة واختلفت الروايات على أكثر الأمور أهمية و«تفاهة»، وليس هناك من يستطيع الجزم بأي أمر أو قصة أو حادثة تاريخية! ولو نظرنا لأخطر قرار يتخذه الشخص العادي في حياته وهو الزواج لوجدنا أنه كان يتم في جميع الأحوال مشافهة، من دون توثيق او حفظ لدى اي جهة، وكان بالتالي عامل العلانية ضروريا في الزواج ليعرف به الجميع. كما أن ندرة الورق وصعوبة حفظ المواثيق والمستندات وظروف المعيشة لم تسمح بحفظ مثل هذه العقود، أو تخصيص مكان لها، بعكس ما كان، ولا تزال الحال عليه بالنسبة للمسيحيين وغيرهم الكثير الذين تحفظ عقود زواجهم في دور العبادة الخاصة بهم منذ مئات السنين، بحيث يمكن الرجوع لها ومعرفة من تزوج بمن، أما المسلمون فمن المستحيل على غالبيتهم تقريبا العودة لبضعة أجيال لمعرفة من تزوج بمن. كما أن الشفاهة، وندرة المواد، هما اللتان كانتا السبب وراء إبداع عرب الجزيرة في الشعر وليس في أي مجال إبداعي آخر، لأنه لا يحتاج الى مطرقة نحت ولا الى قلم للكتابة ولا الى ريشة رسم، بل الى ذاكرة قوية يستطيع صاحبها الانتقال بها من واد لآخر ومن بلد لغيره من دون أن ينسى منه شيئا. وهنا نقول «هيهات يا بو الزلف» أن يتعدل بنا الحال إن كنا لا نكتب ولا ندون، وإن فعلنا فلا أحد، تقريبا، يهتم بالقراءة!
***
• ملاحظة: بسبب الظروف السياسية، وبعد حملة الشطب الأخيرة، فقد قررنا الغياب عن الوطن لفترة، قد تطول قليلاً.
أحمد الصراف