في الغالب، فإن معظم الحجاج الذين يفترشون الأرصفة والأزقة والحدائق والمرافق المهجورة في عموم المدينة المقدسة… مكة المكرمة، هم من الحجاج الآسيويين والأفارقة الذين لا ينتمون لحملات حج رسمية مرخصة… يعني هم أولئك الذين أصروا على أداء فريضة الحج أياً كانت الظروف… حتى وإن لم تنطبق عليهم صفة «الاستطاعة» لأداء هذه الفريضة!
هذه الفئة من الحجاج يطلق عليهم عدة تسميات منها: المفترشون… حملة بوكارتون (نظراً لاستخدام الصناديق الورقية كمأوى)… إلا أن حجاجاً من دولة عربية يستخدمون صفة شائعة بينهم وهي (حملة الرصيف الصالح)… هذه التسمية لا تخلو بالطبع من الفكاهة التي يمتاز بها حجاج تلك الدولة… فهم إنما يستخدمون تلك الصفة من باب اعتبار تلك الأرصفة والمرافق أماكن صالحة فيها كل الخير لأنها تأوي حجاجاً حلوا ضيوفاً معززين مكرمين عند رب العالمين.
تسنح لك الفرصة بعض الوقت لأن تجلس مع بعض الحجاج من أتباع حملة «الرصيف الصالح»… هناك، في حي العزيزية القريب من منطقة الجمرات في منى… ستجد الآلاف منهم… لا مشكلة أبداً تواجههم في توفير الطعام والماء فهو متوافر ولله الحمد، لكن المشكلة الكبرى التي تواجههم هي حين يفترشون المواقع القريبة من منطقة التخييم في منى حيث لا مكان «للمفترشين» الذين يتسببون في مضايقة الحجاج وتعطيل الحركة وتعريض أنفسهم لخطر الدهس والتدافع…
كنت مع أحد الزملاء نجري لقاءات مع الحجيج، فإذا بأحد حجاج تلك الدولة العربية يقترب ويبقى منتظراً دوره لإجراء اللقاء… وبعد الانتهاء تجاذبت معه أطراف الحديث، فهو بحسب وصفه أحد حجاج (الرصيف الصالح)، ولا يجد بداً من الإشارة إلى أن هناك الملايين من الحجيج الذين ينتمون إلى هذا الرصيف… لا خطر عليهم إطلاقاً كما يقول… فهم ضيوف رب العالمين، والله سبحانه وتعالى كفيل بحمايتهم وأمنهم، والأهم من كل ذلك، أنه انتظر لأكثر من 20 عاماً لأداء فريضة الحج، ولا يهمه وقد وصل إلى مكة المكرمة، أن ينام في غرفة مريحة، أو على قطعة كارتون على الرصيف.
ذات مساء، أخذتني الصدفة لأن أتجول على شارع «صدقي» وأحل ضيفاً على مجموعات من حجاج الرصيف الصالح… الجميل في حجاج الرصيف في غالبهم الأعم… ودودون طيبون يتقاسمون ما لديهم من ماء وطعام ويقدمون لضيفهم أيضاً ما تجود به أيديهم… وقد تجد الكثيرين منهم، وخصوصاً الأفارقة، في غاية الخشونة والصلافة أثناء الطواف أو رمي الجمرات… هناك، ليس لديهم «يمه ارحميني»! يتدافعون بقسوة… يستخدمون أقصى قوتهم في إنهاء أشواط طوافهم السبعة غير مكترثين بالآخرين رجالاً كانوا أم نساء… لكن خارج الحرم… على أرصفتهم… فهم أكثر حناناً وأخوية… سألت أحد الحجاج الأفارقة: «لماذا تستخدمون القوة المفرطة في الطواف حول بيت الله… تدخلون إلى الطواف بالعرض وأنتم تهرولون فتضايقون الحجيج وتتسببون في الإضرار بهم، وأنتم هنا هادئون طيبون؟»… ضحك ضحكة عالية ليقول: «أنا لا أفعل… غيري يفعل… هل تعلم بأن الكثير من الحجاج الأفارقة وغيرهم أيضاً يتم تهيئتهم في بلدانهم قبل موسم الحج وكأنهم ذاهبون إلى حرب… سمعت بنفسي أحدهم يحمس بعض الحجيج قبل رمي الجمرات بالقول: ادفع… استخدم قوتك… إذا لم تفعل ذلك فإنهم سيفعلون… بعضهم قال لمن لا يملك تذكرة ركوب قطار المشاعر… اندس بين الألوف واصعد للقطار فلن يمنعك أحد… أنا لست معهم في ذلك… هذه لست من أخلاق المسلمين وليست من أخلاق الحج».
في ضيافة مجموعة من الحجيج من تلك الدولة العربية، على طرف جبل في منى… تشعر وكأنك في ندوة سياسية… الحديث طويل المقام حول استبداد الحكومات العربية والإسلامية، وكل حاج لديه الكثير الكثير ليقوله… وأكثر المحاور التي يدور حولها الحديث هي أن سنوات الذل والخنوع التي عاشها المواطن العربي طوال السنوات الماضية قد ولت بالفعل، وأن هذه المرحلة هي أكثر المراحل أهمية في التاريخ الحديث لأمة الإسلام والعرب في الانسلاخ من الذل وإسقاط الحكام والحكومات الفاسدة الظالمة، ولن تستغرب طبعاً حين تجد أن من بين حجاج (الرصيف الصالح)… المهندس والطبيب والأستاذ الجامعي… ولربما كانت ندوات الرصيف في المدينة المقدسة تتيح فسحة كبيرة للحديث بأمن وأمان ليبوح الناس بما في صدورهم من غضب وحنق ضد الحكام الطغاة المستبدين… حاج شاب قال مازحاً: «لو أن أحداً من أولئك الحكام جاء معنا في حملة الرصيف، لعاد صالحاً يحكم بما يرضى الله… لكنهم لا يجرأون… بالكتير أوي… يعملوا عمرة… وحوالهم جيش من العساكر… حاجة مش علشان ربنا… علشان الشو بس».
هناك نقطة مهمة… لابد أن الكثير من الحجاج لاحظوها… حملة «الرصيف الصالح»… ليست رجالاً أو نساءً فحسب بل تجد بينهم مختلف الأعمار… فلم يعد مستغرباً أن تشاهد أطفالاً رضعاً ينامون بالقرب من أمهاتهم… قد تستغرب وأنت تحاول الهروب من كثافة الأدخنة (السامة) المتصاعدة من الحافلات فترى طفلاً رضيعاً نائماً وسط كل تلك السموم… لكن والحق يقال، فإن حجاج «حملة الرصيف الصالح» يمتلكون صبراً وقدرة على التحمل قلّ نظيرها… ويقضون مناسك حجهم، وهم في الغالب سعداء فرحون… حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور لكل حجاج بيت الله الحرام.