يعتقد البعض ان جماهير الحركات القومية واليسارية من ناصرية وبعثية وماركسية التي سادت الشارع العربي منتصف القرن الماضي وما بعده قد تم ترحيلها الى احد الكواكب السيّارة وحل محلها على كوكب الأرض الإسلاميون هذه الأيام بأطيافهم المختلفة.
***
واقع الحال يظهر ان جماهير أمتنا العربية ذاتها هي من غيّرت جلدها فتحولت من التوجهات القومية واليسارية إلى التوجهات الدينية والمحافظة مع احتفاظها بكل أمراض وثقافات الماضي من رفض «جيني» متجذر للقيم والمبادئ الديموقراطية وعدم التسامح او القبول بالرأي الآخر، ومعها الاعتقاد الراسخ بأن تسليم راية القيادة والحكم للمنافسين هو خيانة ما بعدها خيانة، وعار وشنار على من يقوم به، فنحن كما قال شاعرنا «أناس لا توسط عندنا، لنا الصدر دون العالمين أو القبر» بينما تقوم عملية بناء الأوطان الحديثة وأسس الديموقراطية البناءة وأصول علوم السياسية المتطورة على التفاهم والالتقاء منتصف الطريق بعيدا عن مفاهيم التطرف القائمة على الصدر أو.. القبر!
***
وعليه فإشكال ربيع «العنف» العربي القائم لا صلة له على الإطلاق بـ «السوفت وير» او القشرة الخارجية المتمثلة في التوجهات الإسلامية بل يكمن كل الاشكال في «الهارد وير» اي الثقافة العربية السائدة والمتوارثة العاشقة حتى النخاع رغم كل ما يقال للفساد والديكتاتورية (ديكتاتورية وفساد تحت حكم جماعتنا خير ألف مرة من ديموقراطية وشفافية تحت حكم جماعتهم)، مع ضرورة وجود القائد الضرورة والقبول باستخدام كل الوسائل والوسائط من كذب ودغدغة مشاعر وتزييف حقائق في سبيل البقاء الأبدي، والغاية في النهاية تبرر الوسيلة او حتى مجموعة الوسائل الشريرة للوصول إلى الهدف.
***
لقد اجتاحت الأحزاب القومية والدينية الانتخابات الأولى بعد ثورات الربيع الأوروبي عام 89، الا انها عادت وسلمت الحكم بسهولة ويسر لمن فاز بالانتخابات الثانية بعد الهزائم المدوية التي منيت بها وهو أمر لم يحدث بالمقارنة مع الثورة الإسلامية في ايران، كما ضحى الحزب الاسلامي الحاكم في السودان بثلث البلاد للبقاء ومازال مستعدا للتضحية بالمزيد في سبيل الهدف نفسه، كما أعلنت الأحزاب الاسلامية الفائزة في انتخابات الجزائر عام 92 أنها آخر الانتخابات ورفضت الأحزاب الاسلامية الحاكمة في العراق تسليم الحكم للقائمة العلمانية الفائزة بأغلبية الأصوات، لذا فالمهم ليس نتائج الانتخابات الأولى في المنطقة بل لننتظر حتى نرى ما سيحدث في الانتخابات الثانية بعد ان تعلم الشعوب والأحزاب الفائزة الفارق الكبير بين النظرية والتطبيق ويسر المعارضة وصعوبة الحكم، وسهولة بيع الأحلام الوردية ليلا التي تتحول مع اشراقة كل صباح الى كوابيس نهارية ومعيشية مرعبة تدفع أثمانها مرة أخرى شعوبنا العربية من دمائها ومستقبل أبنائها وبقاء أوطانها.
***
آخر محطة:
(1) للتذكير فقط، رابع أهداف ثورة 52 التي حكم عسكرها مصر بالحديد والنار هو «اقامة حياة ديموقراطية سليمة»، وثاني أهداف حزب البعث الذي أباد العراقيين وقتل السوريين المنادين بالحرية هو «الحرية»، كما ان شعار الأحزاب الشيوعية التي أحالت اليمن الجنوبي والصومال الى دول مجاعات وقتل وقمع وعبودية لإمبراطورية الشر السوفييتية هو «وطن حر وشعب سعيد».
(2) على حكوماتنا العربية في المرحلة القادمة ان تنفتح بشكل واسع وكبير على العالم وتشجع زواج العرب من أبناء الأمم الأخرى وخاصة المتقدمة منها لعل وعسى ان نجد في هذا حلا على المدى الطويل لإشكالية «جيناتنا» الغوغائية القاتلة.